كيف ضاق الحب ذرعا بالجدران الأربعة؟

ضاق الحب ذرعا بالبيوت فأعلن تمرده وخرج ليثبت وجوده في الشوارع العامة وعلى ضفاف الأودية وشواطئ البحار، وليسبح في فضاء افتراضي تقضى فيه الحاجات، فبجولة عابرة تثير نظرك مظاهر دخيلة على العادات التي ألفتها مجتمعاتنا حينما كانت سليمة تأنف كل ما يمس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، واقع مظهره لا يعبر عن جوهره ولا يحسن الإفصاح عنه، مظهر يوحي بأن العلاقات التي تربط بين الجنسين خارج الإطار الشرعي يغمرها كل الحب والود والمساكنة، ويخفي في جوهره انسلاخا عن القيم المجتمعية الأصيلة وما ينتج عن ذلك من مشاكل نطالع أخبارها في وسائل الإعلام وما نراه في مجتمعنا من مظاهر محزنة مبكية دخيلة؛ أمهات عازبات بدون معيل وأطفال مرميون في الشوارع وفي صناديق القمامة وفقدان الاستقرار النفسي والعاطفي والاجتماعي وإفراغ مؤسسة الزواج من مقاصدها.. فأصبحنا نعيش نوعا من التطبيع الجنسي الذي أضحى عنوان الحداثة، وما هذا إلا من تجليات الانحدار الفظيع الذي هوينا إليه، والهزائم التي تتوالى علينا أمام غلبة المد الحضاري المادي الذي تسرب إلى بيوتنا وعقولنا، ورحنا ننتهل منه درءا للشعور بالنقص والدونية، ورغبة في اللحاق بصف التقدم والانفتاح، تلك الفلسفة الدوابية الزاحفة احتلت ديار المسلمين، وأصبحت مشاهد المجون أمرا مألوفا لا تنفر منه إلا النفوس المتخلفة عن العصر، المتشبثة بشيء عتيق اسمه الدين…
تبخر الحياء الفطري باسم الحرية الشخصية وحق تملك الأجساد بعد اندثار الوازع الديني. فأصبحت الغرائز تقود القيم وتدوس كل حواجز العفة، فتقتل صفاء النفوس، وتخدش سمو الرابطة الجامعة بين شطري النفس الإنسانية، هذه الرابطة التي أرادها الخالق ميثاقا غليظا ينبني على الطهر ويصان بالوفاء ويطبع بطابع القدسية، ضمانات عقاله المودة والرحمة والسكينة.
لكن لما غابت هذه الضمانات ارتفعت شكاوي الطلاق العاطفي بين الزوجين اللذين جمعهما عقد ترابط شرعي، فأصبحا يعيشان عيش الأغراب، يسود بينهما منطق الأخذ دون عطاء ومنطق المطالبة بالحق دون تقديم الواجب، ليحل الجفاء محل الوفاء، والتجريح وسوء المعاملة وانعدام التقدير محل التفاهم والعفو، وفي أحسن الأحوال يحل الصمت محل التحاور والتفاهم، فتفتقد كل معاني المودة والرحمة أهم الدعامات التي يقوم عليها الميثاق الغليظ، الذي أصبح مجرد شركة رأس مالها أبناء ضحايا الأنانية وحب الذات.
هذا وصف لواقع ما كان له أن يكون لو أننا صححنا مفاهيمنا حول هاته الرابطة المقدسة، واستحضرنا مقاصدها الشرعية، لا نريد في هذا المكتوب أن نكرر الحديث عن حسن الاختيار ولا عن آداب الخطبة وحدودها الشرعية ولا عن حقوق الأزواج وواجباتهم وغيره مما حوته بطون الكتب، ولكن فقط نود التأكيد على حقيقة مهمة قد تغيب عنا لحظات الفرح بعقد القران وما يليه من شواغل الحياة، هو أن الزواج عقد بين روحين لا جسدين فقط، لا يقتصر على ما تبقي من حياة الإنسان في الدنيا بل فيه نقرر والله المقدر مع من سنحيى في الآخرة، مع من سنعيش لحظة الاستمتاع بالظلال والاتكاء على الأرائك؛ قال تعالى: هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤون، وقبل ذلك ومن أجله تسأل المرأة عن من ستتخذه إماما لصلاتها بكل قناعة وحب، ويسأل الرجل عن من ستكون المأموم الذي به ومعه يتضاعف أجر صلاته، هكذا يكون حبهما نابعا من حبهما لله ورسوله تابعا له، فيتمتعان بالحياة الطيبة ويغيب عنهما عيش الضنك. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: (الزواج الإسلامي نقيض العلاقات السائبة غير المسؤولة ولا المقيدة بضابط شرعي أو خلقي، زواج الناس – حيث بقي شيء يسمى زواجا – يأتدم بالمشاعر والعواطف، ويتصون بالوفاء والعفة، ويتخوف من الوباء والخبائث، وكل أولئك مروءات لا يزيدها الإسلام إلا تكريما. لكن زواج المؤمنين والمؤمنات يسبغ عليه جلال الميثاق الغليظ قدسية، وتجلله الأمانة الإلهية، وتعظم من شأن تبعاته الكلمة، إن حفظت المرأة وقام الرجل بأعباء الميثاق الغليظ اكتست كل أعمالهما، وما يتبادلان من معروف، وما يتباذلان من عطاء، صبغة العبادة والتقرب إلى الله عز وجل. في كل صباح ومساء يقضيانهما في ألفة ومحبة يكتب لهما صدقة: في أي دين تكون المساكنة بين الزوجين عبادة؟ في الإسلام، وفي الإسلام الذي لا دين بالحق سواه) (1) يتقربان إلى الله بها بغية الفوز به جميعا، لا يفتران عن دعاء الله ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.
(1) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2، ص 156، ط1، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء 1996.