قراءة في آية: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾

مريَم الصادقة الطاهرة؛ هِبة الله تعالى لعمران وامرأته، والدان صالحان أنجبا بنتا صالحة، ويسر الله لكفالتها نبيا صالحا هو سيدنا زكرياء عليه السلام. ظهرت عليها منذ طفولتها كرامات كانت أعظمها لزومها المحراب والعبادة. صدقت مريم اللهَ وصدّقت بكلمات ربها فأكرمها سبحانه وتعالى بذكرها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة. يقول الله تعالى في سورة آل عمران الآية 43: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
“يا مريم”:
هذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَا خَاطَبَتْ بِهِ الْمَلَاَئِكَةُ مَرْيَمَ، نِدَاءٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَلَاَئِكَةِ لِسَيِّدَتِنَا مَرْيَمَ لِجَلْبِ اِنْتِبَاهِهَا وَطَلَبِ إقبالها عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلٍ، اصْطِفَاءٌ وَاخْتِيَارٌ وَإِعْدَادٌ قبلي وَقَلْبِيٌّ لَهَا لِتلقي النفحة الْعُلويَّة بِالطَّهَارَةِ وَالْقُنُوتِ وَالْعِبَادَةِ.
قال القرطبي في تفسيره ”ج4، ص83” في اصطفاء مريم “لولادة عيسى “على نساء العالمين” يعني عالمي زمانها”.
حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ عن القاسم بْن مُحَمَّدٍ عن عَائِشَةَ، حدثنا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “خَدِيجَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَمَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا”، هَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ.
مَرْيَمُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّة جعَلَها اللهَ لَنَا أسوة وَنَمُوذَجًا كَمَا جَعَلَ نَمَاذِجَ كَامِلَةً مِنَ أمة رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَعَلَّمُ مِنْهَا اِقْتِحَامَ الْعَقبَاتِ وَتَعْبِئَةَ الأجيال لِلْاِلْتِحَاقِ بِهَذَا الرَّكْبِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ، تَحْقِيقًا لِعُبُودِيَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ بُلُوغًا لِدَرجَاتِ الإحسان، وإرساء لركائز ودعائم الخلافة الثانية على منهاج النبوة. وبما صلح به الْجِيلُ الْقُرْآنِيُّ النَّبَوِيُّ الْأَوَّلُ تَصْلُحُ بِهِ الْأَجْيَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَتِ التَّرْبِيَةُ وَالتَّعْلِيمُ قرآنيين نَبَوِيَّيْنِ.
يقول الإمام المرشد رحمه الله: “ذهب بعض أهل العلم إلى أنها نبية. والمهم أن تعلم النساء، وتوقن المؤمنات، أن الله عز وجل كما يصطفي من الرجال عبادا يصطفي من النساء إماء، وأن باب كرمه مفتوح للمرأة كما هو مفتوح للرجل، وأن طاعتَه سبحانه وعبادته والقنوت إليه والجهاد في سبيله هي الأعمال التي تشرف بها المرأة ويشرُف الرجل لأنها أعمال خالدة، تموت الحضارات ويبعث الخلق فرادى ما يجدون عند مولاهم إلا ما قدموا” (1).
“اقنتي لربك”:
أي: قومي لربك يا مريم وأكثري من الطاعات؛ نقل من زمن الغفلة إلى زمن الذكر. وكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء يستحق منها القنوت، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة المستديمة؛ دعوة إلهية لمريم الصالحة؛ خشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخالد.
قام صلى الله عليه وسلم، وقام أصحابه السنوات الطويلة، وبقي قيام الليل بالنوافل والتلاوة والدعاء والخشوع مدخلا ضروريا إلى عالم التزكي والتطهر والتقدس.
يقول المرشد رحمه الله: “المؤمن يجب أن تكون في حياته اليومية معالم لتكون قدمه راسخة في زمن العبادة والجهاد لا في زمن العادة واللهو. هنالك أوقات المهنة والأسرة والمدرسة والشغل، فيجب ألا يمنع توقيت زمن الوظائف الدنيوية عن إقامة الصلاة في وقتها بأي ثمن” (2).
نقلة تنقلها التربية من ليل اللهو ونهار السبح الطليق المتسيب إلى زمن مضبوط. نقلة من العمر المبذر العابث إلى حياة ذات معنى.
“واسجدي واركعي”:
في هذه الآية تم تقديم السجود على الركوع، والواو فيها تفيد الاشتراك لا الترتيب، وهي تفيد أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدا، قال عليه الصلاة والسلام: “أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد”. ومفاده أيضا أنه أدخل في الشكر، والمقام هنا مقام شكر.
يقول الإمام المرشد رحمه الله: “ليس المؤمن المتزكي من يتفرغ ليله ونهاره للسجود والركوع. ذاك عابد هارب من الدنيا، له مع ربه شأن لا يعنينا منه إلا الإشارة إلى أنه حاد عن المنهاج القرآني النبوي الجهادي إلى الفضيلة الفردية.. ليل المؤمن للتبتل، ونهاره للسبح الطويل. وهو السعي في حوائجه الدنيوية مثل الكسب، وحوائجه الأخروية مثل الجهاد. ولا يفترق شأن آخرة المؤمن عن شأن دنياه إلا اصطلاحا. وإلا فكل عمله جهاد، يسري في سبح النهار تبتلُ الليل” (3).
للمؤمن والمؤمنة في يومهما وقتان: ليله ونهاره. متى كان ليله ليل المتبتلين ونهاره نهار المجاهدين فقد استغرق عمره في الطهر.
“مع الراكعين”:
دعوة منه سبحانه للحركة والفاعلية وليس للانعزال عن الناس؛ أي كوني معهم وبصحبتهم، معية هنا وهناك، هي معنى الصحبة ومع الجماعة. وهي أول خصلة من الخصال العشر التي ذكرها المرشد في المنهاج وقرنها بالجماعة.
روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يأتي على الناس زمان يغزو فئام (جماعة) من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم”.
يقترن الفتح ببركة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتوارثه الأجيال ببركة رؤية من رأى من رأى وصحب؛ إنه تسلسل صحبة عبر الأجيال، تسلسل تخلق بالاتباع، يتسلسل معه موعود الله لمن سار على المنهاج النبوي الذي أوله الصحبة، صحبة مؤمنين لهم اتصال بالله عز وجل عبودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعا ومحبة وأخذا عن السلف الصالح، بالتربية المتسلسلة.
بهذه النماذج الصادقة، وبعملها الذي دلنا عليه القرآن الكريم، نقتدي ونربي الأجيال القادمة ونعمل بصدق وجهد، علنا نساهم في إخراج الأمة من غثاء رميم يحييه الله على يد المؤمنين والمؤمنات. والحمد لله رب العالمين.
(1) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 2، ص 290.
(2) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، الطبعة الثانية، 49.
(3) عبد السلام ياسين، كتاب: “محنة العقل المسلم”، ص 36.