سيدة نساء العالمين 9: حاضنة الدعوة

الحمد لله الملك القدوس السلام، رب البيت الحرام والمشعر الحرام ومكة والمدينة والمقام، أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه منه السلام وإليه السلام، تبارك اسم ربّنا ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله خير الأنام ومسك الختام وبدر التمام، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه ما حنّ مشتاق لطيبة ودخل من باب السلام.
أما بعد،
فيقول المولى عز وجل: بسم الله الرحمان الرحيم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ (5) (المدثر، آية 5).
يروي الإمام مسلم (1) في صحيحه عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم عن فترة الوحي فقال: “فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض. فجُئِثْت (2) منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر.
أُمر مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة والجهر بها، و كان على السيدة خديجة رضي الله عنها احتضانها، و فتح بيتها وقلبها لها و للمؤمنين بها.
بدأت الدعوة الجهرية بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، وهذا استفز رؤوس الاستكبار القرشي، وهدد مصالح المستبدين، وأقلق مضاجع المفسدين. فجُنّ جنونهم، وطارت عقولهم، وخرجت السيوف من أغمادها.
كانت الدعوة الإسلامية إيذانا بدنو فجر قريب؛ يزيل الغشاوة عن القلوب لترى بنور الله، ويزيح الحجب عن الأعين لتنظر إلى فضل الله، وتعيش وفق شريعة الله… وهذا سيقلب قريش رأسا على عقب.
كان الاستكبار القرشي سليل الشرك بالله، يتعاونان معا على المستضعفين، ليسلبوهم كرامتهم، وليهتكوا أعراضهم، وليستبيحوا حرمتهم، ولينهبوا أموالهم، ويسمموا أفكارهم.
ولذلك لما جاء مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة التي تحررهم قامت قريش ولم تقعد، وبدأ الإيذاء والتعذيب، وتفنن المشركون في أساليب الترويع والترهيب، واستغلوا “المنابر الإعلامية” للتشويه والتكذيب…
والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل وإلى التقرب منه عز وجل، هذه الدعوة ستقلب العالم بأسره رأسا على عقب، فهل تراها تهزُّ قلب أمنا خديجة رضي الله عنها؟ هل تراها تهز عرش ذلك البيت؛ بيت أمنا خديجة السيدة الشريفة في قومها، الحسيبة في نسبها، ذات المال والحسب والشرف؟ أتراه يهز ذلك البيت وتلك الأسرة الطيبة الكريمة التي كان يعيش بناتها في رفاهية وسعة وشموخ؟
عند الامتحان وعند الاختبار، يبين الله سبحانه وتعالى الأخيار من الأشرار.
وتحت لهيب النار، يثبت المعدن الأصيل ويطير البخار.
والسيدة خديجة وبناتها رضوان الله عليهن كنّ أهلا لهذا الامتحان، كن أهلا لهذا الاختبار، صابرن وصبرن، وجالدن وما جَبُنّ، وثبتن وما خُنَّ، وتقدمن وما تراجعن.
السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها ظلت صابرة محتسبة، لله درها ! كم كانت تعاني من حالات الترقب والخوف والقلق.
كانت قلبها ينفطر ألما، و تبكي رضي الله عنها دما، وهي تسمع إعلام المغرضين، إعلام المفسدين وهو ينعت حبيب قلبها تارة بكونه مجنونا، وتارة يقولون كاهنا، وتارة كذابا، وتارة شاعرا، وتارة ساحرا.
كم مرة كان يأتي صلى الله عليه وسلم وقد نثر أحدهم على رأسه التراب، أو أمطره بوابل من الشتم والسباب.
كم مرة دخل عليها صلى الله عليه وسلم وقد أدمي وجهه وضرب رأسه.
كم مرة سمعت عن محاولات دنيئة لاغتياله، وخطط شيطانية لاستئصاله.
فكانت رضي الله عنها تكتفي بالعبرات، تسكبها على حبيب قلبها، عبرات تطفئ بها لهيب ذلك الحبّ الكبير الذي تكنّه للزوج محمد، وذلك الشوق العظيم الذي سكن قلبها اتجاه النبي الرسول، الدال على الله سبحانه عز وجل.
صبرت رضي الله عنها واحتسبت وكانت حاضرة معه صلى الله عليه وسلم تضمد جراحه، وتمسح آلامه، حاضرة تدعم الصف، وتنفق المال، وتفتح البيت، وتحتضن الدعوة، وتواسي المؤمنين والمؤمنات.
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
سيدة نساء العالمين 9 : حاضنة الدعوةكان اختبارا يهزُّ أركان العالم بأسره، فهل يهزُّ قلب أمنا خديجة ؟…هل يهزُّ أركان…
Gepostet von قناة الشاهد – Chahed.Tv am Samstag, 22. Februar 2020
(1) وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يحدث – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يحدث عن فترة الوحي – قال في حديثه: “فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض”. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “فجئثت منه فرقا، فرجعت فقلت زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: “يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر” في رواية – قبل أن تفرض الصلاة – وهي الأوثان قال: “ثم تتابع الوحي”. خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح.
قال مسلم: وحدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا الأوزاعي قال: سمعت يحيى يقول: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر فقلت: أو اقرأ؟ فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر فقلت: أو اقرأ؟ فقال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: “جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء – يعني جبريل – صلى الله عليه وسلم – فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت دثروني، فدثروني فصبوا علي ماء، فأنزل الله – عز وجل -: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر” خرجه البخاري وقال فيه: “فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت: “يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر”.
(2) قال العلامة القسطلاني في إرشاد الساري 7/387 في باب “وثيابك فطهر”: (… فجئثت) بجيم مفتوحة في الفرع كأصله، مضمومة في غيرهما فهمزة مكسورة، فمثلثة ساكنة ففوقية، فزعتُ <منه رعبا> أي: خوفا، ولأبي ذر فجثثت بمثلثتين ففوقية من غير همز، قال الكرماني: من الجث وهو القطع).
وأعاد ما يشبه هذا في باب “والرجز فاهجر” بعده.
قال العلامة القاضي عياض في المشارق 1/137: (وقوله: فجئث منه فرقا، بضم الجيم بعدها همزة مكسورة، وثاء ساكنة مثلثة، كذا رواية كافتهم الأصيلي، والحموي، والمستملي، والنسفي في كتاب الأنبياء وغيره، وكذا لأكثر رواة مسلم، وعند السمرقندي وابن الحذاء في الأول جثثت بتاء مثلثة أخرى مكان الهمزة حيث وقع، وكذا عند العذري في آخر حرف منها، مثل الرواية الأولى، ولغيره ما للسمرقندي، وللأصيلي في التفسير الوجهان، وبالثاء فيهما لأبي زيد، ومعنى الروايتين واحد، أي: رعبتُ، كما جاء بهذا اللفظ في أول البخاري.
قال الخليل: جئث الرجل، وجث فزع.
ووقع للقابسي فجثئت، قدم الثاء على الهمزة في كتاب الأنبياء ولا معنى له، ووقع له في كتاب التفسير ولغيره: فحثثت بالحاء المهملة وثاءين مثلثتين، وكذا رواه ابن الحذاء في كتاب مسلم في الثاني والثالث، وفسروه بأسرعتُ، ولا معنى له، لأنه قال بعده: “فهويتُ إلى الأرض” أي: سقطتُ، يريد من الذعر، فكيف يجتمع السقوط والإسراع؟ وحكي أن بعضهم رواه: فجبنتُ من الجبن، ولا معنى له هنا، وهو تصحيف).
وجاء في غريب الحديث لأبي عبيد 2/71: (قال: فجثثت منه فرقا، وبعضهم يقول: جئثت، قال الكسائي: هما جميعا من الرعب، يقال: رجل مجؤوث ومجثوث).
وفي 2/199 أضاف أبو عبيد بعد كلام الكسائي : (قال: وكذلك المزؤود، وقد جئث وجث وزئد). كل ذلك بضم أوله في النسخة التي بين يدي وهي المصورة عن طبعة الهند.
فإذا ذهبنا إلى بعض كتب اللغة نجد صاحب تاج العروس يقول في مادة <جأث>: (… جُئِثَ “كزُهِيَ” جَأْثاً، و”جُئُوثاً: فَزِعَ”، وقد جُئِتَ، إِذا أُفْزِع، فهو مَجْئُوثٌ، أَي مَذْعُور، وفي حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم “أَنَّه رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلامُ، قال: فجُئِثْتُ منه فَرَقاً حينَ رَأَيْتُه” أَي ذُعِرْتُ وخِفْتُ).
وفي مادة <جثث> قال: (… وعن الكسائيّ: جُئِتَ الرَّجُلُ جَأْثاً “وجُثَّ” جَثّاً، فهو مَجْئوث، ومَجْثُوثٌ، إِذا “فَزِعَ” وخَاف، وفي حديث بدْءِ الوَحْىِ: “فرَفَعْتُ رَأْسِي فإِذَا المَلَكُ الذي جاءَنِي بِحِرَاءَ، فجُثِثْتُ منه” أَي فَزِعْتُ منه وخِفْتُ، وقيل: معناه قُلِعْتُ من مَكانِي، من قوله تعالى “اجْتُثَّتْ مِنْ فَوِْق الأَرْضِ”، وقال الحَرْبِيُّ: أَراد جُئِثْتُ، فجعل مكانَ الهَمْزَةِ ثاءً، وقد تَقَدّم).
سيدة نساء العالمين 9 : حاضنة الدعوةكان اختبارا يهزُّ أركان العالم بأسره، فهل يهزُّ قلب أمنا خديجة ؟…هل يهزُّ أركان…
Gepostet von قناة الشاهد – Chahed.Tv am Samstag, 22. Februar 2020