فصل فِي مَعْنَى الْمَحَبَّةِ للنبي ﷺ وحقيقتها

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّه وَمَحَبَّةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَثُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ؛ وَلَيْسَتْ تَرْجِعُ بِالحَقِيقَةِ إلى اخْتِلافِ مَقَالٍ، وَلَكِنَّهَا اخْتِلَافُ أَحْوَالٍ:
فَقَالَ سُفْيَانُ: المَحَبَّةُ اتّبَاعُ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَأنَّهُ التَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة آل عمران، الآية 31).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَبَّةُ الرَّسُولِ اعْتِقَادُ نُصْرَتِهِ، والذَّبُّ عَنْ سُنَّتِهِ، والانْقِيَادُ لَهَا، وَهَيْبَةُ مُخَالَفَتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: المَحَبَّةُ دَوَامُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ.
وَقَالَ آخَرُ: إِيثَارُ المَحْبُوبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُم: المَحَبَّةُ الشَّوْقُ إِلَى المَحْبُوبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: المَحَبَّةُ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادِ الرَّبِّ؛ يُحِبُّ مَا أحَبَّ، وَيَكْرَهُ مَا كَرِهَ.
وَقَالَ آخَرُ: المَحَبَّةُ مَيْلُ القَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ لَهُ.
وأكْثَرُ العِبَارَات المُتَقَدّمَةِ إشَارَةٌ إِلَى ثَمَراتِ المَحَبَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا.
وَحَقِيقَةُ المَحَبَّةِ المَيْلُ إلى مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ، وَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لَهُ إِمَّا لاسْتِلْذَاذِهِ بإدْرَاكِهِ، كَحُبّ الصُّوَرِ الجَمِيلَةِ، وَالْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَطْعِمَةِ والأشربة اللذيذة، وأشْبَاهِهَا مِمَّا كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ مَائِلٌ إِلَيْهَا لِمُوَافَقتِهَا لَهُ، أَوْ لاسْتِلْذَاذِهِ بإدْرَاكِهِ بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ بَاطِنَةً شَرِيفَةً؛ كَحُبّ الصَّالِحِينَ وَالعُلَمَاءِ وأهْلِ المَعْرُوفِ، والمَأْثُورِ عَنْهُمُ السّيَرُ الجَمِيلَةُ وَالْأَفْعَالُ الحَسَنَةُ؛ فَإنّ طَبْعَ الْإِنْسَان مَائِلٌ إِلَى الشَّغَفِ بأمْثَالِ هَؤلَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ بِقَوْمٍ، وَالتَّشَيُّعُ من أمَّةٍ فِي آخرِينَ مَا يُؤدّي إلى الجَلاءِ عَنِ الْأَوْطَانِ، وهتك الحُرم، واخترام النُّفُوسِ، أَوْ يَكُونَ حُبُّهُ إيّاهُ لِمُوَافَقَته لَهُ من جِهَةِ إحْسَانِهِ لَهُ وَإنْعَامِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ من أَحْسَنَ إِلَيْهَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا نَظَرْتَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمْتَ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِهذِهِ المَعَانِي الثَّلاثَةِ المُوجِبَةِ للمحبة:
أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ والظّاهِرِ، وكمالِ الْأَخْلَاقِ وَالبَاطِنِ، فَقَدْ قَرَّرْنا مِنْهَا قَبْلُ فِيمَا مَرَّ من الكتاب ما لا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ.
وَأَمَّا إحْسَانُهُ وَإنْعَامُهُ عَلَى أمَّتِهِ فَكَذلِكَ قَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي أوْصَافِ اللَّه تَعَالَى لَهُ من رَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَهِدَايَتِهِ إيّاهُمْ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِم، وَاسْتِنْقَاذِهِمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، وأنه بالمؤمنين رؤف رَحِيمٌ، وَرَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا، وَيَتْلُو عَلَيْهِم آياتِهِ، وَيُزَكّيهِمْ، وَيُعَلّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فَأيُّ إحْسَان أجَلُّ قَدْرًا، وَأَعْظَمُ خَطَرًا من إحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنينَ؟ وأيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ مَنْفَعةً وَأَكْثَرُ فَائِدةً من إنْعَامِهِ عَلَى كَافَّةِ المُسْلِمِينَ؟ إِذْ كَانَ ذَرِيعَتَهُمْ إِلَى الهِدَايَةِ، وَمُنْقِذَهُمْ مِنَ العَمَايَةِ، وَدَاعِيَهُمْ إِلَى الفَلاحِ، وَوَسيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَشَفيعَهُمْ وَالمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ، وَالشَّاهِدَ لَهُمْ، وَالمُوجِبَ لَهُمُ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ.
فَقَد اسْتَبَانَ لَكَ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُسْتَوْجِبٌ لِلْمَحَبَّةِ الحقيقية شرعاً بِمَا قَدَّمْناهُ من صَحِيحِ الآثارِ، وَعَادَةً وَجِبلَّةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، لإفاضَتِهِ الإحْسَانَ، وَعُمُومِهِ الإجْمَالَ؛ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُحِبُّ من مَنَحَهُ فِي دُنْيَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَعْرُوفًا، أَو اسْتَنْقَذَهُ من هَلَكَةٍ أَوْ مَضَرَّةٍ مُدّةَ التَّأذّي بِهَا قَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ فَمَنْ مَنَحَهُ مَا لَا يَبِيدُ مِنَ النَّعِيمِ، وَوَقَاهُ ما لا يفنى من عَذَابِ الجَحِيمِ أوْلى بالحُبّ.
وَإذَا كَانَ يُحبُّ بالطّبْعِ ملكٌ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ، أو حاكمٌ لما يؤثَر من قِوام طريقته، أو قاص بعيدِ الدار لما يُشاد من عِلمه أَوْ كَرَمِ شِيمَتِهِ (أي خلقته) فَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ عَلَى غَايَةِ مَرَاتِبِ الْكَمَال أَحَقُّ بِالْحُبّ، وَأوْلَى بِالْمَيْلِ.
وَقَدْ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أحَبَّهُ.
وَذَكَرْنا عَنْ بَعْض الصَّحَابَةِ أنَّهُ كَانَ لَا يَصْرفُ بَصَرَهُ عَنْهُ مَحَبَّةً فِيهِ.
من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، للقاضي عياض، ج2، ص 25-27. الطبعة الثالثة: 1461هـ – 2001م.