إنصاف المسلمات من أوجب الواجبات

من خصال عباد الرحمن أن يكونوا أشداءَ على الكفار رحماء بينهم، يدعون ربهم أن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم قرة أعين وأن يجعلهم للمتقين إماما. من يقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتخذ من دونه إماما تكن له الزوجـة ويكن لها الزوج سُخونة أعين، وتكن الذرية ويكن المجتمع مجتمع كراهية، ويكن إسلام المتشدد المتنطع منفرا صادا عن سبيل الله.
رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الأعظم، الزوج الراعي المعلم الذي يسن للأمة ويوصينا ربّنا عز وجل أن نتخذه أسوة حسنة، هاهو ذا تتكئ الزوج المصونة عائشة على منكبيه، وتتفرج على حبشة يلعبون. وأين؟ في المسجد. ثم لا تنتهي الفرجة بملل الزوج الرسول القدوة حتى تكون الزوج الحريصة على اللهو كما أخبرت عن نفسها في حديث البخاري هي التي تسأم. هكذا تُعامل أم المؤمنين وعليها ما ليس على النساء.
أهذا هو ديننا الرفيق بالمرأة زوجا، المتواضع الرحيم بالمرأة أضعف ما تكون المرأة حين تأخذ بيده تذهب به حيث شاءت ليدافع عن حقها؟
أم أن ديننا هو التجهم والتعسير والتكشير وترجيم الأقوال الأشد غلظة على المرأة؟
(..)
إذا كانت رباطة الجأش في نصرة المظلوم مروءة وخلُقا فاضلا، فإن الدين يعزز المروءة لتكون كلمة الحق في إنصاف المسلمات ونبذ لومة اللائم في سنة رسول الله الرفيقة بهن من أوجب الواجبات.
ما دون سنته صلى الله عليه وسلم الناصعة المضيئة كالشمس من شبهة في صحة النقل، أو نسخ طرأ، أو خاص لا يعمم أو مقيد ما له إطلاق، أو دلالة لفظية مشتركة. السنة من مقام العصمة تقول : هكذا فكونوا مع الزوج التي تحرص على اللهو، ومع المظلومة التي تريد النصَفَة. ويأتي المتشدد ومعه العبارة الجامعة المانعة : «لا يجوز!»
(..)
لا مجال للغيور على دينه والغيورة أن تتصديا للاجتهاد حتى يستوفيا الشروط. وإن باب الاجتهاد الذي فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد أن يغلقه. الاجتهاد له شروطه المعتبرة الضابطة التي ليست بدعة في الدين، لكنها لجام للعابثين بالدين والمتهورين في الدين.
(..)
إن شرع الله أينما كانت مصلحة المسلمين. ومن لا يعرف واقع المسلمين ومنابع الفتنة في تاريخه، وحاضرهم في العالم وحضورهم، وطبيعة الصراع الدائر بين الإسلام والصليبية اليهودية، لا يستطيع أن ينزل شرع الله على واقع يستعصي، ويمتنع، ويماطل، ويتحكم في السلطة من لا يحبون الإسلام ولا يريدون لأهله خيرا. وتشتد وَطأَة البلاء فتكون «لا يجوز» تعبيرا عن الرفض، وتغيب ضرورة الصبر والتدرج.
رعاية المصلحة كانت رائد فقهائنا الأقدمين حين أصدروا فتوى جواز إمارة المستولي بالسيف. بهذه الفتوى أدخلوا ثورة الثائرين في إطار الشرع ليستوعبها مخافة أن ينخرق شمل الأمة وينفتق رتقها.
هذا الهم السياسي من جانب فقهائنا رحمهم الله كان وراء تغليب مصلحة على مصلحة، وارتكاب أخف الضررين، ودَرْء مفسدة كبيرة بمفسدة أصغر.
واصطبغ الاجتهاد بصبغة الاضطرار فيما عدا العبادات الفردية من طهارة وصلاة وصيام وحج. وتقلص الفقه في حدود ضيقة لما وقع على العلماء ضغط الحاكم الذي يريد الناس على طاعة لا يخولها له الشرع. فهجر الفقهاء قضايا الحكم، وأخلَوْا الساحة، ففقه الحكم في تراثنا يكاد يكون قاعا صَفصَفا. وفقه حقوق المرأة تابع. ضاعت حقوقها مع حقوق الكافّة.
يأتي المقلد الجامد فيدخل علينا الوهْن في الدين حينما يتبنى الفتوى القديمة بقطع النظر عن مصدرها الظرفي. يجيزها بلا سؤال ولا التفات إلى نصيحة الأسلاف رضي الله عنهم الذين أوصونا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال. كلمة «أحوال» هذه تقول لنا بصريح العبارة لمن يفهم ما تخفي السطور : ها نحن اجتهدنا في حدود ما تسمح به ظروفنا السياسية، فكونوا رجالا في ظروفكم! كلمة «أحوال» تعني ظروف الحكم العاض الذي يغلق باب الاجتهاد فتضمُر حاسة الفقه الحي ويعيش المقلدون على جثت فقهية ورِمَمٍ اجتهادية، ينظرون بأعين الموتى إلى واقع حي يحركه غيرهم فينزعجون ويغضبون ويصرخون: «لا يجوز».
ويأتي المتهور «المجتهد» بفقه حرفي مجرد يحلق في سماء المثاليات ويلتصق بحضارة الجمل والبادية وحبشة تلعب، لا يجوز إن لم يكونوا حبشا، وفي المسجد، لا يجوز أن يلعبوا في غيره، وهكذا هذا العالَم لا يجوز لأنه ليس صورة طبق الأصل. وكأن الله عز وجل خلق هذه الكرة لنا لا لغيرنا، وكأن بلاءه سبحانه للعباد لا مكان له في الاعتبار.
من لا يتصفح مع نصوص القرآن وصحيح الحديث صحيح الواقع المتغير الذي جعل الله تغيره بلاء يَعْجزُ عن عبادة الله وعن الاجتهاد.
انحط الاجتهاد زمانا منذ نهاية القرن الرابع بانحطاط الحكم منذ ما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة. نفَسٌ من قوة دفْع النبوة والخلافة الراشدة ارتفع بالعقول المجتهدة في «أحوالها» أربعة قرون. الآن تسبق الصحوة الإسلامية الاجتهاد التجديدي الضروري وتفرضه. وتجعله شرط حياة. فهل ينتظر منتظر الإمام المهدي ليزجرنا عن كلمة العجز «لا يجوز»؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المومنات”، ج 1، ص 60 – 66.