أم حرام: من الجزيرة إلى قبرص

قالت أم حرام إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أَوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتي يَغْزُونَ البَحْرَ قدْ أوْجَبُوا، قالَتْ أُمُّ حَرامٍ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ أنا فيهم؟ قالَ: أنْتِ فيهم” (الحلية، ج 2، ص 62).
ماذا ينقص أم حرام حتى تكون من تلك الأسرة المؤمنة المجاهدة؟ إن من البطولة أن تذهب المرأة للجهاد في سبيل الله، ومن البطولة أن تموت غازية في أرض بعيدة، ثم تدفن فيها. فالثبات على المبدأ، والخروج للجهاد في سبيل نشره، والموت دفاعا عنه، يعتبر من النوادر بالنسبة للرجال، فكيف الأمر بامرأة كأم حرام؟
أمران عجيبان في شأن أم حرام؛ أولهما إصرارها على الجهاد في سبيل الله شابة وكهلة، فقد طلبت من رسول الله في شبابها أن يدعو لها بأن تكون من المجاهدين مع الرجال، وجاهدت فعلا في كهولتها. وثانيهما أن تكون منيتها في قبرص، في وسط البحر الأبيض المتوسط، بعد أن جاهدت مع الرجال وهي في سن الكهولة. كان من الممكن أن تصبر كما صبرت سمية، فتموت من وقع الأذى والاضطهاد في سبيل الدين. وكان من الممكن أن تحارب في المعارك القريبة أو البعيدة، في جزيرة العرب كما فعلت أم عمارة. يمكنها أن تنال الكثير وهي في جزيرة العرب، يكفيها الرجال مؤونة الخروج للفتح ونشر الدين في بقاع الأرض.
لكن ما يزيل عجبنا، أن أم حرام نبعت من أسرة أساسها الإيمان، وهدفها الجنة، ووسيلتها الجهاد في سبيل الله. فأخوها حرام بن ملحان، هو القائل يوم بئر معونة: فزت ورب الكعبة. وأختها أم سليم، كانت ندا للرجال في المعارك. وابن أختها أنس بن مالك، معروف في ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاركته له في كل الغزوات. وزوجها عبادة بن الصامت هو الصحابي الورع المناضل المجاهد.
فماذا ينقص أم حرام حتى تكون فردا من أفراد تلك الأسرة المؤمنة المجاهدة؟ أليست من آل النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وبشارة رسول الله ترافقها أينما حلت وارتحلت، الإيمان بالدين يدفعها، والقدوة من أفراد أسرتها تسيرها، والطمع في جنة الخلد هدفها.
فمن هي أم حرام؟
نسبها
أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار. الأنصارية النجارية المدنية. فهي من بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأن آمنة بنت وهب من بني النجار.
أمها: مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. فهي من بني النجار من ناحيتي الأب والأم.
إسلامها
في مكة وبالتحديد في موسم الحج، عرض الرسول نفسه على القبائل القادمة من أنحاء الجزيرة العربية، وكان من بين الذين لقيهم من أهل يثرب ومن بني أخواله بني النجار حرام بن ملحان أخو أم حرام، وعبادة بن الصامت، زوجها، فشرح الله صدورهم له وتشبعوا بروح القرآن، وآمنوا بالله ربا وبمحمد نبيا، وكلما قرأ عليهم رسول الله آية أو سورة صادفت في نفوسهم قبولا وفي أفئدتهم تجاوبا، وصاروا يرددونها في مجالسهم، وينشرونها في أهل المدينة بعد عودتهم إلى ديارهم.
ولقيت آيات القرآن وسوره من أم حرام وأختها أم سليم تجاوبا، فكانتا من أوائل المسلمات في المدينة، حتى أصبح الإسلام جزءا من حياتهما وصارت تعاليمه أساس سلوكهما. ومضت الأيام والليالي الطوال وهم يرتلون ويحفظون، وينتظرون هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفارغ الصبر، ولا سيما أنه سينزل في ضاحية قباء قبل وصوله المدينة، لأنها في طريق هجرته من مكة، وما دامت الأختان تسكنان في قباء فسوف تنالان شرف استضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أم حرام في السلم
كانت أم حرام داعية للدين، تعلم النساء حولها، وتلتقط من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما تسمعه منه، لتعيه ذاكرتها، ثم تسرده على مسامع لداتها وأترابها، فتروي ذلك عن رسول الله. وحديثها في جميع الدواوين. يقول عنها كتاب سير أعلام النبلاء إنها كانت من علية القوم. وقد حدث عنها ابن أختها أنس بن مالك وغيره.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيارات منظمة لقباء، وبسبب المسافة التي تبعدها عن المدينة – وهي ضاحيتها – كان يبقى فيها ضيفا عند عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام، أو عند أنس بن مالك وأمه أم سليم، وكلتا الأختين في دار واحدة – فيطعم عندها أو لدى أختها ثم يقيل هناك، حتى يقوم إلى شأنه وحاجته من لقاء الأصحاب والصلاة بهم وتعليمهم شؤون دينهم.
وقد حدث أنس بن مالك قال: “دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو إلا أنا وأمي، وخالتي أم حرام بنت ملحان، فقال: “قوموا فلأصل بكم”، فصلى بنا في غير وقت صلاة” 2.
وهذا الحديث يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل بيت آل ملحان، وكأنه بيته، في أي وقت شاء.
أم حرام في الحرب
لم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقر في المدينة، حتى بدأ نشاطه وأصحابه لنشر الدين في الجزيرة العربية، وشرعت الغزوات تتوالى الواحدة تلو الأخرى ضد المشركين، بدءا ببدر وانتهاء بتبوك. فهل كان للنساء دور في تلك الغزوات؟ الجواب أنه كان للنساء دور كبير، عرفناه عند أمهات المؤمنين ولدى الصحابيات الجليلات كصفية بنت عبد المطلب وأم عمارة وأم سليم وأم أيمن وغيرهن. أما أم حرام فقد ساهمت في معارك أحد وحنين والخندق والفتح والطائف مع زوجها عبادة رضي الله عنهما.
بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدث أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحمان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله يوما، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: “ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة” قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. ثم وضع رأسه، فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: “ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، كالملوك على الأسرة” كما قال في الأولى – قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: “أنت من الأولين”. وهكذا بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها ستغزو في البحر وستكون من الأولين الذين يغزون في البحر، وربما كانت من الشهداء في تلك الغزوات.
كيف تحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قبض عليه الصلاة والسلام ونبوءته عن أم حرام لم تتحقق في حياته. وفي خلافة أبي بكر اتجهت الفتوحات إلى العراق أولا ثم إلى بلاد الشام ثانيا، وكلها جيوش متدفقة نحو اليابسة، إذ لم يفكر أحد أثناء خلافته رضي الله عنه أن يغزو في البحر.
ترامى إلى مسامع أم حرام، وهي في قباء، استئذان معاوية من عثمان أن يغزو في البحر وموافقة عثمان على ذلك. فتذكرت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قد وصلت إلى خريف العمر، وبلغت من الكبر مرحلة لا تستطيع أن تجاهد فيها، لكنها تلهـفت لركوب البحر والجهاد في سبيل الله. ألم يقل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم“أنت من الأولين”؟ ولم تكن بذلك تطمع بمغنم أو تتوق لفوز، ولكن رغبتها في الجهاد كانت تدفعها، وطلبت من عبادة زوجها أن يستأذن لها عثمان بن عفان، وألحت في طلبها، حتى وافق لهما عثمان بمرافقة الجيش، كما أذن لغيرهما من كبار الصحابة أمثال أبي ذر الغفاري وأبي الدرداء وغيرهما.
اتجهت أم حرام مع زوجها إلى حمص، حيث أقامت فترة، ريثما تعبأ الجيوش، وتنظم الفرق. وجلست هناك تحدث خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف بشرها بالغزو بالبحر، وأنها من الأولين السابقين في ذلك الغزو. وتفاءلت إلى أبعد حد، أنها ستجاهد مع جيش معاوية فتتحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانتهت المعركة واستعدت الجيوش للعودة من حيث جاءت وقد غنمت وما غرمت. وبدأت ترجع إلى الشام على سفنها، كالملوك على الأسرة. وتهيأت أم حرام للعودة، متوكلة على الله، ولكنها كانت قد أسنت وضعف جسدها، ووهنت قوتها، فقربوا لها بغلة تمتطيها، لتوصلها إلى السفينة المعدة لها، فزلت قدمها وسقطت على الأرض، لا تقوى على النهوض، أسرع إليها زوجها عبادة رضي الله عنه، وعدد من كبار الصحابة يساعدونها ويسعفونها لكنها كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة، مطمئنة النفس باسمة الثغر مشرقة المحيا. فنقلوها إلى حيث قاموا بتجهيزها ثم دفنها، وذلك في العام السابع والعشرين من الهجرة. قال هشام: رأيت قبرها ووقفت عليه بالساحل (بقاقيس). وعن هشام بن الغاز قال: قبر أم حرام بنت ملحان بقبرص، وهم يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة.
وبعد:
فإن قبر أم حرام في قبرص لواء يسترشد به السائرون، ومنارة تنير سبيل السالكين، وقدوة لكل من يريد الجهاد في سبيل الله. وأهل قبرص المسلمون منهم وغير المسلمين حين يمرون بقبرها يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة.
ونحن إذ نعيد ذكراها وننفض الغبار عن تاريخها، لا يسعنا إلا أن نقف إجلالا لسيرتها الزكية، وحديثها العطر، وأن ندعو لها رضي الله عنها، وأن نجعل منها رائدة وقدوة في سيرتها وجهادها وعطائها الذي لا ينضب من شبابها حتى شيخوختها.
[2] أُمّ حَرَام أُخْت أُمّ سُلَيْمٍ، كَانَتَا خَالَتَيْنِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْرَمَيْنِ إِمَّا مِنْ الرَّضَاع، وَإِمَّا مِنْ النَّسَب (اختلف العلماء في ذلك)، فَتَحِلُّ لَهُ الْخَلْوَة بِهِمَا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا خَاصَّةً، لا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرهمَا مِنْ النِّسَاء إِلا أَزْوَاجه.