نحن في حضرة عرسك..

بقلم: حميد الراتي
سائرا كنتُ، وبعض البوح المرتجف لا ينفك يتردد على شفتي: نحن في حضرة عرسك.
شمس الظهيرة بهندامها القشيب تضيء جدران البنايات الشاهقة، متأرجحة وكأنها تأمل كشف السر المخبوء بين سحابتين..
كيف منحتنا كل ذلك الدفء؟
وكلما لمحت الطريق من حولي متوترا، أراني أستعجل خجولا انجلاء رؤياي، وأعيد ترتيب ما علق بخرم ذاكرتي وكأنني بلا عنوان أرسل إليه اشتياقي.
جحافل العابرين تشّق امتداد الشارع الرئيسي المُفضي إلى باحة مسجد السُنة.
ناقوس طرامواي يخترق فُسحة الانتظار.
خوذات خضراء تتأرجح متأهبة للتدخل وفضّ الجموع.
متاريس حديدية تقطع عنوة أنفاس المَسير نحو قُبة البرلمان.
ضوء أحمر.. و.. ثم أحمر. لا أخضر اليوم.
بِشَارَته الزرقاء الناصعة وشعره المرسل على كتفيه ينط بحذر بين صفوف المصلين، يلملم خيط الميكروفون ويثبّت عدسة آلة التصوير ملتقطا بخفة متمرس جُرح المُشَيّعين.
سورة “ياسين” تُرَتَل بخشوع ملائكي ممزوجة بدمع دافئ وابتسامة..
وبعد جِنازة رجل..
تحركنا أمَاماً لمدة ساعتين بِعُمْر، وبضع خطوات منضبطة على طول الأرصفة المتعرجة نزولا وصعودا نحو هدير البحر..
بقلب منفرط انحنيتُ خائرا ألتقطني من ذهول، أرمق من بعيد موكبكَ البهيج مكسوا بجلال العارفين، ينساب متلألئا نحو قوس باب الرواح، وعلى طول أسوار المدينة العتيقة، كانت السماء تمسح أحداقها، وأديم الأرض يخفي مدامعه عن العاذلين..
شرفات مشرعة مزدانة بعبير وَورود، نثيث ماء الزَهْر، وأذكار، أذكار..
مُنَظِّمون يفسحون الطريق للمشهد الاستثنائي، فقد كنتَ العريس على ركاب زفته الكبرى.
كرنفالك سفينة عشق وحضن مواساة.
أنْظُر إليك الآن بعينين كليلتين وجسد منكسر، أحسك تلوح لي منتشيا، شامخا، فتنحل عرى حزني إلى سكون..
كم أستبطئ عبورك جاهدا، جاهدا.
أرنو للمرة الأخيرة، إلى نعشك المسجى المدثر بلون الربيع، وشرايين الأرض الحاضنة، وبلل التراب..
والآن.. ما الآن، يا قبس النور، ويا سيدي؟
كيف ترجلتَ مسرعا إلى وصالك المرتقب، ولبيتَ النداء مغتبطا، وكأنك تكن حبا باذخا للموعد الطافح بالبِشْر، حيث مائدة الألفة تزدان رونقا وجمالا بعد بسط مغيب الفردوس جناح العيشة الراضية..
أي موعد هذا؟ وحدكَ العارف بكنهه ومقامه.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.