في رحاب آيات التآلف

التآلف كنز عظيم يبحث عنه كل من أنهكته الحروب، فيتمته وشردته وحرمته أهله وأحبابه وأذاقته من ويلاتها، وكل من تجرع مرارة الفرقة ونار الاختلاف فاكتوى بلهيبهما، ولم يعد يرى ﺇلا كل ﺫي رأي معجب برأيه، وكل مذهب متعصب ﻟﻤﺫهبه، قوم يبحثون عنه اضطرارا. وآخرون ملأ قلوبهم أنوارا وأسرارا. فكيف يقرأ هؤلاء وأولئك آيات التآلف الواردة في كتاب الله عز وجل؟
التآلف كرم إلهي
الرؤوف الودود على عباده بنعمة من أمهات النعم، انعدامها يجعل الكون غابة موحشة مخيفة يحذر فيها الإنسان أخاه الإنسان أكثر من خوفه من وحش مفترس أو طير كاسر. ﺇنها نعمة التآلف يقول الحنان المنان واﺫكروا نعمة الله عليكم ﺇﺫ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته ﺇخوانا (آل عمران׃ 103)؛ الحب بعد العداء أمان واطمئنان، فهو كمن يرد حوضا صافيا باردا بعد عطش مميت، فذكر الله تعالى التآلف بعد العداء ليدرك اﻹنسان قيمة ﻫﺫه النعمة الغالية.
وقد استشعر العرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ﻫﺫا المعنى، وتذوقوا حلاوته، ﺇﺫ أنعم الله عليهم بعد أن هدت الحروب قواهم، ومزقت العصبية القبلية كيانهم، وشوه الانتقام نفوسهم وطباعهم، فجاء التآلف من الله بلسما لأرواحهم وشفاء لقلوبهم، عاشوا في ظلاله حياة هنيئة سعيدة، يجود الصحابي الجليل بماله ونفسه فداء لأخيه، ويريد أن يتنازل له عن نصف ماله وعن زوجه وممتلكاته، وهو في أتم الفرح والسعادة.
فقد علمهم المعلم الأعظم والمربي الحكيم كيف تصفو النفوس، وكيف تأمن المجتمعات، حتى أثنى عليهم الحق عز وجل بقوله׃والذين تبوؤوا الدار واﻹيمان من قبلهم يحبون من هاجر ﺇليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (الحشر׃ 9).
الحب بين بني البشر لايقدر بثمن، ويعز تحقيقه بالمال أو الجاه أو السلطان، فهو كرم ﺇلهي ما بعده كرم يقول عز من قائل:ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم (آل عمران). كم عدد القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية التي تسعى ﺇلى نشر السلم في العالم، والحد من العنف والحروب؟ هل تمكنت من تحقيق ﺫلك؟ لا وألف لا، ما نرى إلا دمارا هنا وهناك وخرابا يأتي على الأخضر واليابس، لا يكاد يسلم منه لا الأطفال الأبرياء، ولا الحيوانات ولا النبات.
الحب الصادق اﻟﺫي يؤلف بين بني البشر، وينشر السلام والوئام هدية ربانية، لا قدرة لأحد على تحقيقها ولو اجتمعت الجن واﻹنس لما استطاعوا ﺇليها سبيلا.
وما أحوج اﻹنسانية اليوم ﺇلى ﻫﺫه النعمة، خاصة وأن معظم سكان العالم يعانون من الحروب والأحقاد والعصبيات، فما السبيل ﺇلى تحقيق ﺫلك؟
البحث عن الحب
ﺇن التحاب بين الناس ينبني على أسس متينة، ﺇﺫ إن اﻹنسان لا يمكنه أن يحب أخاه اﻹنسان ﺇلا ﺇﺫا تمكن من كبح جماح حبه لنفسه، وتخلص من أنانيته، وﻫﺫا يتطلب التمسك بعقيدة سليمة، والرجوع ﺇلى معين الحب اﻟﺫي لا ينضب، ألا وهو حب الله عز وجل. فكلما وطد العبد حبه بخالقه، ﺇلا وأصبح قناة فعالة لنشر الحب والود بين الناس قال تعالى:واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا… (آل عمران׃ 103)؛ سبق الاعتصام بالله التحذير من الفرقة، لأن الاعتصام هو الحصن الحصين اﻟﺫي يقي من التفرقة، كان هرم بن حيان يقول: “ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى ﺇلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان ﺇليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم”.
ومن قطع حبله عن خالقه وعطل العمل بشريعته سبحانه وتعالى؛ ﺇلا واستحق العداوة والبغضاء التي ضربها الله على الأمم السابقة قال تعالى:فنسوا حظا مما ﺫكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ﺇلى يوم القيامة (المائدة׃ 14).
من هنا يبدو جليا أن البشرية تمتلك مفتاح مشاكلها وفرقتها، لكنها للأسف الشديد وضعته في جيبها ونسيته، وهي تحاول فتح الباب وتكسيره بيدها. ولن ينفتح ﺇلا ﺇﺫا ﺗﺫكرت المفتاح واستعملته.
المفتاح هو اﻹقبال على الله البارئ المصور، الأعلم بما يصلح لمعاشنا على ﻫﺫا الكوكب. فلا سبيل للرقي والازدهار إن لم يكن العمران الأخوي هو أساس البناء ﻟﺫا قال المولى عز وجل:ولا تفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم قال القرطبي في تفسيره׃ “ﺇن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة لأن الفرقة هلكة والجماعة نجاة”.
الحب هو طريق الصعود ﺇلى المجد، ﺇﺫ لا مجال للتعاون والعمل المثمر دون حب. وقد أدرك سيدنا ﺇبراهيم عليه السلام ﻫﺫا المعنى فآثر الحب في دعائه على الرزق، لما ترك سيدتنا هاجر وسيدنا ﺇسماعيل عليهما السلام في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا طعام، قال تعالى:ربنا ﺇني أسكنت من ﺫريتي بواد غير ﺫي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي ﺇليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (ﺇبراهيم׃ 37).
فالحب أولا ثم بعد ﺫلك الرزق، لأن الرزق دون حب فتنة كبرى، يتحول فيها اﻹنسان ﺇلى حيوان جشع، يتهافت على خيرات الأرض فيدوس أخاه اﻹنسان بل يقتله ليشبع رغباته ونزواته التي لاحد لها ولا نهاية. فلو كان لابن آدم واديان من ﺫهب لابتغى واديا ثالثا، ولا يسد جوف ابن آدم ﺇلا التراب، ويتوب الله على من تاب.