في اليوم الثاني من فعاليات ذكرى الوفاء السابعة.. ثلة من الباحثين يتدارسون “سؤال الأخلاق في فكر الإمام”

في اليوم الثاني لذكرى الوفاء السابعة، الأحد 18 ربيع الآخر 1441ه الموافق لـ 15 دجنبر 2019م، تدارس ثلة من الباحثين من جماعة العدل والإحسان موضوع “سؤال الأخلاق في فكر الإمام رحمه الله تعالى وسيرته”، وقد بين الغاية من هذه المدارسة مُسير الندوة الدكتور عبد الحكيم حجوجي، لما اعتبر سؤال الأخلاق من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش والتداول في الوقت الراهن، خاصة بعد التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم على كل المستويات، وما يواكب هذه التحولات من تغير في المنظومة الأخلاقية التي تؤطر وتوجه هذه المجالات كلها، حيث تعكس المظاهر والإحصائيات والأرقام الانهيار الأخلاقي والتراجع القيمي على جميع المستويات.
وفي المقابل عدّ أن المؤمن الذي ينشد الإحسان يدرك أن الأخلاق في الإسلام هي الدين كله وهي الغاية التي شرع من أجلها التدين. لذلك تغيت الندوة مدارسة كيف عالج الإمام المسألة الأخلاقية، والحلول التي يطرحها في مشروعه التغييري. مطارحة علمية من خلال أربعة محاور: سؤال الأخلاق والمفهوم والمرجعيات، والعلاقات الأسرية، وبناء الجماعة ورعايتها، ومعاملة الآخر.
افتتح الحجوجي برنامج الندوة ببث شريط جمع كلمات للإمام يدعو فيها إلى التخلق بمكارم الأخلاق، وبسط جمال أخلاق الإمام في التعامل مع الناس جميعا؛ من أعضاء الجماعة والعائلة والجار وزميل المهنة وحتى من جمعته بهم نوائب السجن.. أخلاق اتسمت بالربانية في غير تطرف والطيبوبة في غير تكلف، والقوة في غير تجبر، والخلاف في غير استعلاء، والحوار في غير استجداء.. وعرض بعضا من مواقفه في التعامل حتى مع المتهجمين والمخالفين..
في المداخلة الأولى، تناول الأستاذ فؤاد هراجة سؤال الأخلاق ومفهوم المرجعيات، باسطا العقبات التي تعترض الباحث في المنظومة الأخلاقية عند الإمام، ومجملا إياها في ثلاث:
العقبة الأولى: وتتجلى في أن الأخلاق هي خلفية قيمية وصفة محايثة لكل المواضيع والقضايا والإشكاليات التي عالجها الإمام في نظريته المنهاجية.
العقبة الثانية: تتمثل في كون كل ما أثله الإمام في كتبه لا يشتمل على دراسة أخلاقية خالصة ومستقلة، بل على العكس نجد أن الخلفية الأخلاقية التي تؤطر كل المنظومة الفكرية تتشابك مع ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي ونفسي، ومع ما هو تاريخي.
العقبة الثالثة: أن الفكر المنهاجي أو النظرية المنهاجية لا يخضعان في بنائهما إلى المعايير الأكاديمية الصرفة، بل إنهما اجتهاد يتجاوز هذه الأطر الضيقة دونما الإخلال بالروح العلمية للبحث والكتابة، وهو ما دفع الباحث إلى تتبع المسألة الأخلاقية عند الإمام ومقارنتها بباقي الفلسفات الأخلاقية الأخرى بحذر منهجي.
ولرسم المعالم الكبرى للمنظومة الأخلاقية في فكر الإمام عبد السلام ياسين، تناول هراجة مداخلته من خلال ثلاثة محاور وهي:
1) تقديم نظرة شاملة ومقتضبة عن الإرث الفلسفي الأخلاقي وأهم القضايا التي عالجها.
2) تناول السؤال الأخلاقي في فكر الإمام والأسئلة المتفرعة عنه: سؤال إمكانية النظرية الأخلاقية من عدمها – سؤال المرجعية في تأسيس الأخلاق –سؤال الفهم – سؤال اختيار النمط الأخلاقي – سؤال وظيفة الأخلاق.
3) المسألة الأخلاقية في الفكر المنهاجي وسمة التعدد الأخلاقي من داخل النسق.
في المحور الأول اعتبر هراجة أنه يمكن اختزال الفكر الأخلاقي الفلسفي في مدرستين كبريين وهما المدرسة الأخلاقية الأفلاطونية التي تؤسس لأخلاق تنازلية متعالية تعتمد التربية وتروم الفضيلة والسعادة، وسيلتها المعرفة على مستوى الأفراد، والدولة كراعية للأخلاق الجماعية. والمدرسة الأخلاقية السفسطائية، التي تقوم على أخلاق العقل المستوحاة من الطبيعة حيث لا خير ولا شر في ذاتهما، ولا وجود فيها لأخلاق الجماعة، وإنما هناك أخلاق فردية تعتمد على الخطابة والإقناع وتحسم أمورها بالتصويت الديمقراطي لا غير..
وأوضح أن الإمام جنح إلى تحديد المفاهيم التي بدورها تحدد السلوك، وتبني المفاهيم والمصطلحات عنده له أثر بليغ على السلوك، فتوصيف المجتمعات المسلمة مثلا بالفتنة عوض وصفها بالجاهلية يجنبها أخلاق العنف والتطرف والتكفير..
ويؤسس الأستاذ ياسين بحثه في أصل الأخلاق ومنشئها على القرآن الكريم معتبرا أن صورتها التنزيلية الإجرائية تتمثل في السنة النبوية والنموذج النبوي والصحابي. وفي سؤال ماهية الأخلاق أكد الإمام أن المسألة الأخلاقية لا يمكن أن تتأسس خارج شرط الحرية لكنه يقيد المصطلح تحت عنوان “حرية مسؤولة”، فالفكر الأخلاقي عند الإمام يتسم بالواقعية حيث تتشابك حرية الفرد مع بواعث الشريعة من حيث مقاصدها ومطالبها (أخلاق الإحسان / الدعوة) وروادعها التي ترسم حدود الحريات الفردية في الفضاء العام للدولة (أخلاق العدل/ الدولة).
واعتبر الإمام أن الأخلاق هي صناعة وحرفة يحترفها المربي صاحب التجربة الأخلاقية النوعية، تروم تغيير الإنسان في كل أبعاده، ومن تم تغيير الواقع، فالأخلاق عنده غائية تحكمها غايات واضحة ومحددة تُحدث انتقالات نوعية على مستوى الروح والنفس والعقل ثم السلوك والواقع.
ووظيفة الأخلاق في فكر الإمام لا تنحصر فقط في تحديد ما “يجب أن نفعل”، بل في تحرير إرادة الإنسان لعله يدرك “ما يمكنه أن يفعل” وهو بلوغ الكمال الخلقي الذي لا حد له.
في محور “سؤال الأخلاق في البناء الأسري عند الإمام” كشفت الأستاذة حفيظة فرشاشي أن الأخلاق أخذت مركزا محوريا في اشتغال الإمام على قضايا التجديد في الفكر الإسلامي، حيث تناول البناء الأسري في بعده القيمي الأخلاقي ومكانته في إعادة صياغة الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي.
وأوضحت أن الإمام في تمثله العملي للأخلاق الحسنة كان مثالا أخلاقيا رفيعا يحتذى، وعلى مستوى الفكر تناول الموضوع في معظم كتاباته في انسجام تام مع شعار مشروعه التغييري “العدل والإحسان” وهما الجامعان للبعد الأخلاقي في رسالة الإسلام. فـطرح الأخلاق في البناء الأسري عند الإمام هو طرح متكامل، يناقش أصل العلاقة بين الجنسين ذكرا وأنثى في بعدها الأخلاقي كمحدد وجودي للإنسان، ومن ثم كمنطلق لبناء الأسرة ثم مكانتها ووظيفتها القيمية في المجتمع الإسلامي، وتضيف فرشاشي أن هذا الأمر “نتيجة للإيمان بالله تعالى واستجابة لنداء الوحي القادر وحده على إعطاء الإنسان المعادلة الصحيحة لخلق الاتزان بين مختلف مناحي وجوده”.
كما اعتبر الإمام أن “البناء الأسري هو المسؤول أخلاقيا على الحفاظ على الفطرة السوية للإنسان حتى يؤدي رسالته الاستخلافية ومضمونها معرفة الله تعالى وعمارة الأرض وهما المحددان لمجتمع العمران الأخوي، ولذلك فتكوين أسرة هو اللبنة الأولى والأساسية في المجتمع.. والعلاقة الزواجية والتي يعتبرها الإمام مرتكزة على قاعدتين أخلاقيتين هي: أولا رباط مسؤول بين زوجين يحمي الفطرة السليمة ويلبي حاجاتها في إطار من الالتزام الأخلاقي.. والشرط الآخر المعتبر هو حصول السكينة بين الزوجين بأخلاق الرحمة والمودة كأساس للاستقرار في قاعدة البناء الأسري ومنه استقرار المجتمع”.
“وعلى هذا الأساس الأخلاقي ينظر الإمام إلى أدوار كلا الزوجين من زاوية تحقيق البناء الأسري لرسالته الوجودية في رعاية الفطرة السليمة ولتحقيق ذلك يجب أن تكون هذه الأدوار تكاملية وليس تماثلية ولا تراتبية وإلا اختل البناء”.
وانطلاقا من هذا الفهم يعطي الإمام لوظيفة المرأة بمقومات الحافظية والأمومة التي تمتلكها الأسبقية في العملية التربوية والحياة الزوجية وبناء الأسرة والمجتمع، معليا من شأن الأمومة كقيمة أخلاقية ترفع المرأة في سلم الوجود وعند الله تعالى.. والإمام على هذا الاعتبار يرى أن الرهان لإعادة الوظيفة القيمية للبناء الأسري والأداء العمراني في النهوض بالأمم هو في إعادة إحياء الأمومة لتسترجع قيمتها وتؤدي دورها الوجودي”.
فالأسرة تستحق أن تكون لبنة أساسية للمجتمع في تصور الإمام، والتي يصفها “بالأسرة البُرج بما يحمل لفظ البرج من معاني المقاومة لمعاول الهدم التي تنخر المجتمع والقدرة على الدفاع التربوي والمرابطة على ثغر الأسرة واستصلاح بيئة تربوية ممكنة من مناعة تربوية أخلاقية حامية من التأثر بالمشاريع المضادة ومانحة لمقومات القدرة على التأثير لتكون الأسرة مبعثا دعويا وبهذه المواصفات في البناء الأسري يكون النسل صالحا للاستخلاف”، والأسرة البرج عنده “هي مبعث للدعوة وليست بالكيان المنغلق الهش والمتقوقع على ذاته المنفصل عن حركية المجتمع الغير الفاعل في التغيير”.
ويؤكد الإمام على “ضرورة سياج من الأخلاق الاجتماعية لحماية البناء الأسري بالنظر إلى القيمة الاعتبارية لهذه المؤسسة وضرورة تشكل بيئة مجتمعية صحية وسليمة أخلاقيا لتحقيق استقراره”. ليطرح بعد ذلك الأخلاق الاجتماعية المطلوبة والتي يلخص دورها في سيادة روح المسجد بأخلاق المسجد في جميع مناحي الحياة، فلا خلوة ولا اختلاط هوسي يذكي مكامن الغريزة لتتجرد من كل خلق بل المطلوب هو أخلاق الحياء والعفة والطهر.
الدكتور عز الدين نصيح، في مداخلته؛ “المعالم الأخلاقية التي اعتمدها الإمام في تربية الأعضاء وبناء الجماعة” أكد أن الإمام أولى مسألة الأخلاق مكانة مركزية في مشروعه التجديدي، ووضع برامج للتربية على الأخلاق الإسلامية الراقية. فجعل التربية الأخلاقية أساس التربية الإيمانية الإحسانية، التي تتغيـى المطالب السامية والغايات الكبرى، من تشوفٍ لمقامات الإحسان وإقامة العدل في الأرض. وهي تربية جامعة على شعب الإيمان التي حدد عددها في سبعة وسبعين، ما من واحدة منها إلا ولـها بـعد أخلاقي.
وقد اعتمد الإمام رحمه الله في تربية العضو وبناء الجماعة معالـم أخلاقية واضحة؛ فاعتبر سوء الخلق دليلا على ضعف الإيمان، وامتلاك النفس رأس الخلق، فامتلاك النفس عنده ومخالفـتـها وزجرها، وكبح جماحها وحملها على الحق، منطلق التربية الإيمانية الأخلاقية ومبتغاها، لتتأسس التربية على محبة الله ورسوله، والحب في الله، والنصيحة والشورى تعظيما للمؤمنين وحسن ظن بـهم وحسن استماع وحسن تداول، والصدق في طلب وجه الله عز وجل والإقبال عليه، وفي العلاقة بالناس والتعامل معهم وفي أداء الواجبات الدنيوية والمهام الدعوية، والسمت الحسن في المظهر والمخبر، والبذل الجامع لكل معانـي العطاء والإنفاق والإيثار، والتؤدة وهي عنده جـماع أخلاق إسلامية رفيعة ومكارم علــيـــة كالصبر وتحمل الأذى والأناة والحِلم ورحمة الخلق والرفق الرافض للعنف بجميع أشكاله وأنواعه وصوره ولـجرثومة الغــلــو والتشدد.
لذلك اعتبر الإمام التربية أساسا لاكتساب الخُلق الحسن وإعدادا الشخصية الإيمانية المتكاملة، وقد جعل التربية الإيمانية الإحسانية قائمة على شروط ثلاثة: أولها الصحبة والجماعة؛ اقتداء بذوي الأخلاق السامية واهتداء بهديهم وتأدبا بآدابهم، وثانيها برامج وأنشطة تربوية ومشاريع اجتماعية دعوية تلين بها طباع النفوس وتتدرب على محاسن الأخلاق وتنطبع بها، وثالثها إخلاص وصدق وقابلية للتربية والتخلق بالأخلاق الحسنة.
ولفت الأستاذ نصيح في ختام كلمته إلى أن الإمام كان نموذجا ساطعا للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وحركاته وسكناته، ومثالا حيا شامخا في سماء الأخلاق والفضائل.
وفي المداخلة الأخيرة “سؤال الأخلاق: معاملة الآخر” أكد الدكتور ادريس مقبول أن نقاش الأخلاق عند الإمام رحمه الله ليس موضوع نظر محض، وإنما هو عمل اليوم والليلة، وذكر بضرورة الاعتناء بجوهر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت الأخلاق جوهرها؛ “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” استئنافا لرسالة من سبقه من الأنبياء في بناء منظومة الأخلاق، ولذلك يجب أن يكون التجديد من هذه الطينة ومن هذا الجوهر.
وأفصح مقبول عن اهتمام الإمام الكبير بحاضر العلاقات مع الفضلاء وضوابطها الأخلاقية، مشددا على أن العدل الإحسان مدرسة أخلاقية اختارت البعد الأخلاقي مدخلا للتجديد، بحيث لا يخلو موضوع أو فكرة في مشروع الإمام التجديدي من هذا البعد، فقد أعاد تركيب مشروعه على هذا الأساس. كما لفت مقبول إلى أن الإمام في كتابه المنهاج نبه على خطورة التعلق بكافة أشكال التدين السطحية الخالية من أي تخلق.
وعدَّ مقبول الأخلاق ثورة على العادات والأنانيات والمصالح الضيقة واستغراق الإنسان في حياة المادة وإعادته إلى الفطرة.
وذهب الإمام في المنهاج وفي غيره من الكتب بعيدا في معالجة الأخلاق عندما نادى بـ”الأخلاق الكوكبية” أو “الأخلاق العالمية”، فمشروعه رحمه الله يهدف لحل إشكالات الإنسانية الجيوستراتيجية… وهو يقرن العمل السياسي بالتربية الأخلاقية، فلا يرقى الأول إلا بما يرقى به الثاني نظرا للرسالة التي حملناها في هذه الأرض، فرسالة العدل والإحسان رسالة تذكر للعهد الفطري الأول، ولرسالات النبيئين وتذكير للإنسانية بذلك.
بعد انتهاء المداخلات تم فتح باب التداول، نقاش أثرى الموضوع في جوانبه التي لم يتناولها المتدخلون، وفصل في بعض الأفكار التي تناولوها باختصار، ملامسين جوهر الأساس الخلقي في فكر الإمام رحمه الله تعالى.
واختتمت فعاليات الذكرى السابعة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بكلمة جامعة للأستاذ محمد عبادي الأمين العام لجماعة العدل والإحسان، أوضح فيها أن موضوع الأخلاق “علم مجاهدة وليس علم مجادلة” حثا منه على الحرص على تمثل الأخلاق وحيازتها وذلك بمجاهدة النفس في جمعها، لا أن تكون علم مدارسة لأجل الغناء الفكري. وأضاف أن مشروع العدل والإحسان مشروع إنساني، فهو يسع الجميع، وهذه السعة لا يمكن أن ندركها إلا بالأخلاق الحسنة، واستدل على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق”. وزاد مؤكدا في هذا السياق “العالم قد تضمه إليك من حيث المعاملة القلبية؛ فالرفق والرحمة والمحبة والرعاية، وما شاكل ذلك من المعاني القلبية يمكن أن تغطي العالم بأسره”.