سؤال الأخلاق في البناء الأسري عند الإمام ياسين

من الأبعاد التي تناولها الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه بالدرس والتحليل وأخذت مركزا محوريا في اشتغاله على قضايا التجديد في الفكر الإسلامي البناء الأسري في بعده القيمي الأخلاقي ومكانته في إعادة صياغة الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي.
فالموضوع محوري في فكره وفي ممارسته كإنسان وكمؤسس لجماعة، ومن حيث التمثل العملي فهو بشهادة من يعرفه حق المعرفة مثال أخلاقي رفيع يحتذى؛ مربيا لجماعة على شرط الكمال الأخلاقي وابنا وأبا وزوجا وصهرا ومع كل ذي رحم موصول مبرور وصاحب بيت مصون بأخلاق الإسلام وآدابه، ومن حيث الأهمية الفكرية فقد تناول الموضوع في معظم كتاباته في انسجام تام مع شعار مشروعه التغييري “العدل والإحسان”، وهما الجامعان للبعد الأخلاقي في رسالة الإسلام، فطبيعة هذا المشروع تجعل من الكمال الأخلاقي مطلبا يتجاوز الوجود على ظهر هذه الأرض إلى شرط إلزامي لكل طالب لوجه الله والقربى عنده، فالأخلاق من هذا المنظور يجب أن تكون حاضرة في وجدان الفرد المسلم وتحكم كل علاقاته سواء في أسرته أو في مجتمعه.
وهو بهذا التجديد يقرب المثال البعيد والذي هو عصر التنزيل، وما كان عليه القدوة والنموذج سيدنا رسول الله صلى الله، متجاوزا من جهة الفقه المنحبس وليد قرون العض والجبر وما خلفه من قصور في تمثل النموذج الكامل، ومجليا من جهة أخرى عور الحضارة الغربية الماثلة بتسلطها، فبين نموذج تاريخي عال بأخلاقيته وواقع حضارة مادية غارقة في دوابيتها فارضة لسلطانها تعيش المجتمعات المسلمة في حالة من التردي والانحطاط؛ مستلبة مقهورة ومفتونة وفي أشد الحاجة إلى مشروع تجديدي.
فـ”سؤال الأخلاق في البناء الأسري عند الإمام عبد السلام ياسين” هو طرح متكامل، حيث يناقش أصل العلاقة بين الجنسين ذكرا وأنثى في بعدها الأخلاقي كمحدد وجودي للإنسان على سطح هذه الكرة الأرضية، ومن ثم كمنطلق لبناء الأسرة ثم مكانتها ودورها القيمي في المجتمع الإسلامي، كما لم يغفل التطرق بعمق معرفي إلى إكراهات المشاريع الاجتماعية المضادة، حيث قام بنقد قيمي أخلاقي لها ودحض مرتكزاتها ومآلاتها التخريبية على الإنسانية جمعاء، وتلمس أيضا الأدواء الأخلاقية التي تتشربها المجتمعات المسلمة في تمثلها للقيم الأسرية كنتيجة لفهم خاطئ للدين أملته عصور الانحطاط، وما نتج عنها من انحباس فكري وترد اجتماعي واستلاب أمام حضارة غربية تخطف الأبصار ببريقها الخادع وجوهرها فراغ أخلاقي وقيمي.
وسأحاول الوقوف على أهم المفاصل التي ميزت تناوله للموضوع:
· القيمة الأخلاقية للبناء الأسري كنتيجة للإيمان بالله تعالى
· البناء الأسري اللبنة الأساسية في المجتمع
· أدوار الزوجين تكاملية وليست تماثلية ولا تراتبية والأمومة قيمة أخلاقية
· البناء الأسري ومسؤولية صناعة الأجيال
· الأسرة برج دفاع تربوي ومبعث دعوي
· سياج من الأخلاق الاجتماعية يحمي الأسرة
وقف الإمام أولا على أن القيمة الأخلاقية للبناء الأسري هي نتيجة للإيمان بالله تعالى استجابة لنداء الوحي القادر وحده على إعطاء الإنسان المعادلة الصحيحة لخلق الاتزان بين مختلف مناحي وجوده، هذا الوجود ليس ماديا محضا ولا روحيا خالصا، وبمقتضى هذا الفهم لطبيعة تركيبة الإنسان يصبح الزواج وتأسيس أسرة هو الإطار الشرعي الوحيد للعلاقة الغريزية بين الرجل والمرأة وفق مقتضيات الفطرة السوية السليمة التي فطر الله الناس عليها لتسعد دنيا وآخرة، بعيدا كل البعد عن اختيار مسلك الغريزة المتحررة من كل دين، المنسلخة من كل خلق، الرافضة لأي التزام أسري سقوطا إلى مرتبة الدواب حين سلم العقل المتأله بالمسلمة الدوابية كنتيجة حتمية لإنكاره لكل ما هو خارج عن نطاق إدراكه، وتلك هي معضلة الحضارة الغربية.
وفيما يخص كون البناء الأسري هو اللبنة الأساس في المجتمع، يعتبر الإمام البناء الأسري هو المسؤول أخلاقيا على الحفاظ على الفطرة السوية للإنسان حتى يؤدي رسالته الاستخلافية؛ ومضمونها معرفة الله تعالى وعمارة الأرض، وهما المحددان لمجتمع العمران الأخوي، ولذلك فتكوين أسرة هو اللبنة الأولى والأساسية في المجتمع. ومن هذا المنطلق فالأسرة هي مؤسسة اجتماعية ذات أولوية مطلقة على المجتمع حمايتها والتمكين لها لتقوم بأدوارها، وعلى اعتبار هذه المحورية تحدد طبيعة العلاقات والمسؤوليات داخل الأسرة لتؤدي رسالتها الوجودية.
هذا البناء الأسري يأخذ متانته رأسا من النواة الصلبة التي يرتكز عليها، ألا وهي العلاقة الزواجية، والتي يعتبرها الإمام مرتكزة على قاعدتين أخلاقيتين؛ فهي أولا رباط مسؤول بين زوجين يحمي الفطرة السليمة ويلبي حاجاتها في إطار من الالتزام الأخلاقي وليس علاقات عابرة مستهترة تتلاعب بها العواطف المتقلبة وتنزل بالإنسان إلى دركات الحيوانية والعبث، فهو بهذا الشرط ميثاق غليظ له حرمته وقدسيته، والشرط الآخر المعتبر هو حصول السكن بين الزوجين بأخلاق الرحمة والمودة كأساس للاستقرار في قاعدة البناء الأسري ومنه استقرار المجتمع.
وعلى هذا الأساس الأخلاقي ينظر الإمام إلى أدوار كلا الزوجين من زاوية تحقيق البناء الأسري لرسالته الوجودية في رعاية الفطرة السليمة، ولتحقيق ذلك يجب أن تكون هذه الأدوار تكاملية لا تماثلية ولا تراتبية وإلا اختل البناء. فهذا التكامل ليس معناه نقص طرف مقابل الآخر كما سرى فهم ذلك عند المسلمين استنادا إلى حديث الرعاية ومفهوم “الدرجة” الواردة في القرآن الكريم، حيث يرى الإمام عبد السلام ياسين أن الحديث أسيء فهمه وجعل من الراعي سواء حاكما أو زوجا متسلطا وما استتبع ذلك من ترد سياسي واجتماعي، لذلك يجب إرجاع مفهوم الرعاية إلى أخلاق المسئولية وليس التسلط والاستعلاء، ومن ثم فمفهوم “الدرجة” في نظره هو مسؤولية إضافية على الرجل وليست مزية أو تشريفا له ولا تنقيصا للمرأة وتحقيرا لها.
وانطلاقا من هذا الفهم يعطي الإمام لدور المرأة بمقومات الحافظية والأمومة التي تمتلكها الأسبقية في العملية التربوية والحياة الزوجية وبناء الأسرة والمجتمع، معليا من شأن الأمومة كقيمة أخلاقية ترفع المرأة في سلم الوجود وعند الله تعالى، في نقيض تام مع نظرتين حاطتين من قيمة الأمومة؛ واحدة أفرزتها قرون العض والجبر وما خلفته من انحطاط تأثرت به وضعية المرأة في المجتمع، حيث أصبحت كما مهملا ورديفا لتلك المخلوقة الأمية التافهة لا دور لها سوى الخدمة والتفريخ الغثائي للذرية، والنظرة الأخرى حداثية جعلت من أمومة المرأة عبئا عليها وصورتها كوظيفة دونية للمرأة تحاول وسعها التخلص منها ضدا على غريزة الأم التي تهفو إليها كل امرأة مهما حاولت الحداثة تسفيهها ومحاربتها، لتعيش المرأة الحداثية اختلالا وجوديا ووضعية نشازا في سلم الفطرة. فالإمام على هذا الاعتبار يرى أن الرهان لإعادة الدور القيمي للبناء الأسري ودوره الحضاري في النهوض بالأمم هو في إعادة إحياء الأمومة لتسترجع قيمتها وتؤدي دورها الوجودي.
والقضية الأخرى التي يراها الإمام محورية في إعادة الدور القيمي للأسرة هي إرجاعه لحجم التردي المجتمعي الذي نعيشه إلى الغثائية التي أصابت الأمة، ويحمل الأسرة متمثلة في الأبوين مسؤولية هذا التردي، باعتبار أن التكاثر الذي يطلبه الإسلام هو تكاثر نوعي يحرص فيه الأبوان على صلاح ذريتهما وصلاحيتها لتحمل الرسالة بأمانة وقوة، وليس تكاثرا عدديا كما فهمه المسلمون حتى أصبحوا غثاء كغثاء السيل.
ومن هنا نخلص إلى التصور الذي يطرحه الإمام للأسرة التي تستحق كونها لبنة أساسية للمجتمع، حيث يصفها بالأسرة البرج، بما يحمل لفظ البرج من معاني المقاومة لمعاول الهدم التي تنخر المجتمع، والقدرة على الدفاع التربوي، والمرابطة على ثغر الأسرة، واستصلاح بيئة تربوية ممكنة من مناعة تربوية أخلاقية حامية من التأثر بالمشاريع المضادة ومانحة لمقومات القدرة على التأثير لتكون الأسرة مبعثا دعويا، وبهذه المواصفات في البناء الأسري يكون النسل صالحا للاستخلاف.
ففي الأسرة البرج وتحت رعاية الأبوين ترعى استعدادات الطفل وتنمى وتوجه ليندمج في المجتمع بفاعلية وإنتاجبة ليحصل له الانتماء الهوياتي، ويعتبر الإمام أن الرهان خاسرا إن لم يسر هم الآخرة في أوصالها ويسق استحضار معية الله القلوب وينغرس فيها، فالمهمة التربوية الأسمى لمستقبل الذرية هي معرفة الله وعبادته حق العبادة، والولاء لله تعالى ولرسوله ولدينه.
ثم فالأسرة البرج التي يتكلم عنها الإمام هي مبعث للدعوة وليست بالكيان المنغلق الهش والمتقوقع على ذاته المنفصل عن حركية المجتمع غير الفاعل في التغيير، فهي مجال مفتوح على محيطه تؤثر فيه بقدر ما يمتلك أفرادها من رسوخ في القيم وتمثل لها وما يتمتعون به من أخلاق عالية؛ من بر بالوالدين وصلة رحم ومكارم أخلاق في التعامل مع القريب والبعيد. والتغيير المنشود والذي يحدده الإمام في صناعة الإنسان مصدره الأسرة المتمثلة لدورها التربوي الدعوي والمتخلقة بأخلاق الإيمان.
ونأتي إلى النقطة الأخيرة في هذا العرض وهي ضرورة سياج من الأخلاق الاجتماعية لحماية البناء الأسري بالنظر إلى القيمة الاعتبارية لهذه المؤسسة، وضرورة تشكل بيئة مجتمعية صحية وسليمة أخلاقيا لتحقيق استقراره ليقوم بأدواره، حيث يعتبر الإمام من هذا المنطلق دعوات الحريات الجنسية من زنا ولواط وغيرها من الأشكال الإباحية هو هجوم على القيمة الأخلاقية للأسرة ومس بسلامة المجتمع وتعد لحدود الله التي ارتضاها لعباده، ومن ثم فهذه الدعوات الإباحية تضرب في النسق الأخلاقي للأسرة في الإسلام. ليطرح بعد ذلك الأخلاق الاجتماعية المطلوبة والتي يلخص دورها في سيادة روح المسجد لا أخلاق السوق، وذلك باستحضار أخلاق المسجد في جميع مناحي الحياة؛ فلا خلوة ولا اختلاط هوسي يذكي مكامن الغريزة لتتجرد من كل خلق، بل المطلوب أخلاق الحياء والعفة والطهر، وهنا يؤكد أن هذه الأخلاق يجب أن تكتسب وتمارس بالروح التي كانت تسري في العلاقات في العهد النبوي لا بالفهم الذي آلت إليه في عصور الانحطاط، حيث أصبحت في حق المرأة رديفة السد والحبس أخلاقا سالبة وقائية عاطلة معطلة جنت على الأمة.
وفي الختام نجمل القول في أن العلاقة الصحيحة بين المرأة والرجل هي تكامل ورابطة أساسها المحبة والأخوة والرحمة والأصل الإنساني الواحد والمصير الأخروي المشترك، وسنة الزواج تتماشى والفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والأسرة هي محضن ضروري لبناء الإنسان ولبنة أساسية لاستقرار المجتمع والحفاظ على الجنس البشري، والبناء الأسري قوامه أساس متين من الأخلاق والقيم يحمي وجوده ويصون حقوقه، ليكون بدوره وعاء يتشرب منه أفراده مكارم الأخلاق ليحيوا الحياة الطيبة، وسندا لهم في طريق السلوك إلى الله والترقي في مدارج القرب منه؛ علاقة جدلية هي شرط تحقيق العدل والإحسان، ومن هنا يتربع البناء الأسري شرطا في السلوك الإحساني لا قاطعا لطريقه إن كان هذا البناء مشدودا بمتانة الأخلاق فهو يقفز بأهله درجات في ذرى الإحسان ومدارج الكمال الإنساني.