رسالة محبة واعتراف بالجميل

كان بإمكانه أن يعبد الله منفردا، أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم لوحده، أن يعيش ويذوق في عوالم الأنس بالله، وأن يحافظ مع كل ذلك على الامتيازات المادية والمناصب الدنيوية. كان بإمكانه ألا يفعل ما فعله، لكني أحمد الله عز وجل أن جعله إماما مربيا صادعا بالحق داعيا إلى الخير دالا عليه، ساقيا للقلوب ومناديا إلى المحبوب؛ هلموا ففي هذه الصحراء نبع صافٍ، طريق موصل لبر الأمان، هاهنا مسلك سار فيه خير خلق الله عز وجل، من هنا البداية .
منا من يشتكي من فقد القدرة على الاستمرار في العمل الصالح، من الانقطاع المفاجئ، من تراكم المشاريع غير المكتملة، وإن هذا لممّا يدعوني لأُجِل في هذا الأستاذ المربي والإمام الكبير صدقه، صمد في قوله الحق بفضل من الله عز وجل حياته كلها إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى، راسل ملكا متسلطا فوعظه بالله في وقت كانت المقابر تئن برؤوس المعارضين والزنازين تختنق بالمعتقلين، والناس في منازلهم يشيعون بين فلذات أكبادهم أن الحيطان تسمع وستبلغ الواشين.
ظل وفيا فلم يبع دعوة الله بمنصب زائل، متنقلا جراء ذلك من حصار إلى آخر، وما تزال دعوة العدل والإحسان محاصرة حتى بعد رحيله رحمه الله إلى الدار الآخرة، ليعلم الجميع أن أصل تخوف “المخزن” هي هذه اللحمة، تخوفه من أساس البناء ومتانته، والحافظ الله.
لك سيدي عبد السلام ياسين أقول شكرا، لأنك كنت البداية لعقد التغيير في هذا الزمن، وكنت الصاحب الأمين والناصح المعين الذي يبلغ صوته وتأثيره إلى ما شاء الله من أجيال، جمعت بين التربية والتنظيم، نظّرت لمستقبل الإسلام ووضعت أسس السير. ويشهد الله أنك لم تزعم لنفسك عصمة، وتشهد المجالس ومن كان هناك أنك طالما زرعت الفكرة الحرة والرأي الواضح والتوجه السليم لقلوب غايتها وجه الله لا سواه.
نحبك سيدي فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، ونجلك لأنك أعطيتنا خير قدوة؛ مسؤولا جادا، وأبا عطوفا، وزوجا رحيما، وناقدا حكيما، وعارفا بالله خبيرا، وأخا في الله محبا نصوحا، ومصحوبا عز مثاله. أبقى الله لنا معك صلة لا تقطعها برازخ الموت، صلة القلوب التي اجتمعت على الله عز وجل وما كان لله دام واتصل، وهنا أذكر رؤيا رأيتها قديما قبل رحيل الإمام رحمه الله؛ رأيت أن المخزن يتوعدنا بوفاة مرشدنا ويقولون إذا مات فستتفرقون، وهم لذلك منتظرون متربصون، في تلك اللحظة قلتها كلمات قوية أمامهم، إذا رحل سيدي عبد السلام ياسين إلى جوار ربه فكل فرد في جماعة العدل والإحسان سيصبح عبد السلام ياسين. وكذلك كان اليقين في الله، فإذا كان أساس الدعوة الاعتصام بالله دام واتصل بفضل من الله.
شكرا سيدي لأنك علمتني ما كنت أجهله، علمتني أن الدين مراتب، أن أطلب أشرف المطالب وأسناها، ألا أقنع بالدون، وعلمتني هذا الجمع المتكامل بين طلبي لخلاصي الفردي وقربي من الله وبين السعي الصادق لينعم خلق الله بمثل هذا الحق؛ حق معرفة الله، وكيف يتسنى ذلك والظالمون المستبدون قد حولوا المساجد إلى مقابر لا تكاد تسمع فيها همسا من نصح وصدع وتصدر وتوجيه، عزلوا الربانيين من المنابر، وأبدلوهم بكل مطبل للحاكم مترض عن الظالم. علمتنا أن العدل مطية الإحسان، وأن الجائع العاري لن يسمع خطاب الروح والقرب من الله إلا بعد أن يشبع ويأمن، جعلنا الله سببا لفرج الأمة وزوال الظلمة.
إنه من الصعب الكتابة عن سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله، إذ ينبهر المحب بحجم معرفته وتواضعه، ومدى “موسوعيته” وترسخ مبادئه، وعمق نظرته واستشرافه ونورانية أنامله التي تخط عن قلب ذاكر ولسان لاهج ناصح، وجوارح عاملة.
رحمك الله سيدي وجعلنا على الوفاء حتى نلقى الله عز وجل مقبلين غير مدبرين، وكما كنت تحب أن نكون في صحيفتك؛ محسنين ومحسنات.
والموعد الله.