بعض معالم الأخلاق في فكر الإمام المجدد عبد السلام ياسين (1)

مقدمة
احتلت الأخلاق في الشريعة الإسلامية مكانة متميزة لما لها من أهمية كبرى في حياة الإنسان في إطار علاقته بنفسه وبأخيه الإنسان وبمحيطه، وما يمثله من جماد وأحياء، ليُتوّج كل ذلك في علاقة العبد بربه ممثَّلَة في اجتهاده للتخلق بما أمر به الله من أخلاق تجعل منه عنصرا فاعلا متميزا منسجما في كل هذه العلاقات، فيسمو لطلب الكمال الإنساني البعيد عن الأنانية المدمِّرة لكل معاني الجمال فيه، وعن الماديّة التي تهوي به في بهيميّة طافحة مخرِّبة له ولمحيطه من حوله.
لا غرابة إذن أن تكون الأخلاق إحدى الركائز المهمة والقوية التي بنى عليها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله منهاجه ومشروعه المجتمعي، في إطار منظومة أخلاقية جامعة شاملة لا تدع مجالا من المجالات إلا وكانت ميزته الظاهرة وصفته اللازمة، فقد نظّر الإمام رحمه الله من خلال كتبه لفكره ومشروعه التغييري الذي جعله قائما على حقيقة استخلاف الله للإنسان في الأرض والتصديق بموعوده سبحانه حيث قال في كتابه العزيز: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّنّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (سورة النور، الآية 55)، وحقيقة لقاء الله، الذي كان هذا الاستخلاف مزرعته ومشروعه التجاري بمنطق الربح والخسارة تبعا للطاعة أو العصيان، بل كانت مقاربته الأخلاقية في علاقة العبد بربه وبالكون كله أسمى من منطق الربح والخسارة، فحثّ وذكّر وربّى على أن تكون علاقة إحسانية مبنيّة على المحبة والعطاء والثقة وحسن الظن والرضا وكل معاني الجمال التي إذا تحلى بها الإنسان نَعِم في الدارين ونعِم معه الكون كله.
بنى الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله منظومته الأخلاقية على مستويات متعددة؛ قد تظهر للوهلة الأولى متشعّبة، ولكن المتفحصّ الدقيق يجد في هذه المنظومة وحدة متناغمة منسجمة منطلقة من أصل واحد هو بغية انجماع الإنسان كفاعل رئيس في عمارة الأرض مع كل محيطه في تفاعل إيجابي، وعلاقة تروم انخراطه في هذا الكون بما خُلق له، ليتفرّع عن هذا الأصل فروع قد تتشعّب وتختلف باختلاف متطلبات الاستخلاف والعمارة، ولتجتمع مرة أخرى في وحدة غائية الوجود التي تتلخّص في العبودية لله سبحانه وتعالى، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (سورة الذاريات، الآية 56)، والإنس والجن هما الثقلين المكلّفين والمخيّرين في هذه العبودية بخلاف كل الكائنات التي خلقت بفطرتها وسجيتها خاضعة للخالق الواحد الأحد.
ماهية الأخلاق عند الإمام ياسين
قبل أن نغوص في فكر الإمام وموضع الأخلاق فيه بمختلف مجالاته وتشعباته، نستقرئ رأيه في ماهية الأخلاق حيث يقول رحمه الله: “لن نقف طويلا باحثين عن التعريف الأحسن للأخلاق ولن نناقش طويلا لنعرف هل الخلق موطنه الطبع أو العاطفة وهل يتحكم فيه العقل المفكر. لكننا سنقبل أن لكل هؤلاء أثرا في التكوين الخلقي، ثم سننظر عمل الأخلاق في حياة الإنسان وأثرها في رقيه الاجتماعي” (1). ولئن دعانا الإمام لأن نقبل بأن كل من الطبع والعاطفة والعقل متحكمة في الأخلاق إلا أنه فرّق بين التربية العقلية والتربية الخلقية وحدّد لكل مجالها قائلا: “إن التربية العقلية تنصرف إلى تهيييء الإنسان لمواجهة الواقع، فموضوعها قبل كل شيء الأشياء والأحداث. وإمداد الإنسان بالمعرفة النظرية التي تنير وجه هذه الأشياء والأحداث بصفة موضوعية. أما التربية الخلقية فتتناول الشخص نفسه، تتناوله لتنير طريق إرادته وتؤيد هذه الإرادة بعد أن توجهها للخير. التربية الخلقية تتناول الشخص لتوقظه إلى سر وجوده وتفطنه إلى القيم المجرّدة حتى يكسب مكانه من هذه القيم” (2).
يتبيّن لنا أن التربية العقلية موضوعها معرفة الأشياء والأحداث في حين أن التربية الخلقية موضوعها الإنسان نفسه وتوجيه إرادته. ويجمع الإمام بين التربيتين بعد ذلك في نسق واحد تخدم كل واحدة منهما الأخرى، فتربية الخلق وفيها توجيه للسلوك غير ممكنة عنده إلا بمعرفة الواقع الذي نتصور فيه السلوك ومعرفة الأفراد الذين يتميّز عنهم؛ “فيظهر لأول وهلة أن لا علاقة بين المعرفة والخلق لتباين موضوعيهما، ونتأمل فيتبين لنا أن تربية الخلق، وفيها توجيه للسلوك، وفيها معرفة الشخص لنفسه وتقديرها، لا تمكن إلا بمعرفة الواقع الذي نتصور فيه السلوك… ولا تمكن إلا بمعرف الأفراد الذين يتميز عنهم” (3).
وينتقل الإمام من حديثه عن ماهية الأخلاق ومجال التربية الخلقية وعلاقتها بالتربية العقلية، إلى غاياتها موضحا أن غايتها الكبرى هي إصلاح المجتمع بإصلاح الأفراد، وجَعَل القانون الخلقي يهدف إلى ضمان الحياة الاجتماعية وتأمينها لتنبثق عن هذا غاية ثانية هي التقدم بالفرد، إذ يتضمن هذا القانون التزامات يكيّف الفرد سلوكه على منوالها، فيرقى بعمله الخلقي ويتقدم في سلم القيم المطلقة (4).
ليختم بأن العمل الخلقي ليس ككل الأعمال التي نأتيها في حياتنا اليومية والمهنية، فالسلوك الخلقي عنده “شعور بأن ما نفعله واجب مقدس لا ينبغي أن نروغ عنه، وهو أسلوب في التصرف فرضه الضمير أو فرضه الاقتناع العميق (5).
مكانة الأخلاق عند الإمام
استند الإمام رحمه الله إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إلاه إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” (6). فصنّف شعب الإيمان التي جعلها سبعة وسبعين شعبة في عشر خصال، ضمّن كل خصلة شعبا من الإيمان تشرحها وتؤكدها من خلال أحاديث نبوية شريفة، وهو ما أقره بقوله: “نذكر شعب الإيمان كما صنفناها بإيجاز، ويرجع لكتابنا “شعب الإيمان” يسر الله تحقيقه وطبعه، ففيه من الأحاديث المفصلة ما يعطي لكل شعبة دلالتها مبنية على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم” (7)، وكانت الشعبة الحادية عشرة في مصنّفه هذا هي “البرّ وحسن الخلق” تحت الخصلة الأولى “الصحبة والجماعة”، وشعب الإيمان عند الإمام هي روافد يتألف منها نهر الإيمان (8)، وهي “ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يتنكبها، وإلا كان كمن يبني على غير أساس”(9)، مما يضع الأخلاق في مصنّفه مكانتها من الدين (أي ركيزة سلوكية وشعبة من شعب الإيمان) التي وردت بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأهمية الأخلاق وعظمها عنده اعتبر سوء الأخلاق من نقص الإيمان “من المؤمنين من ينقص إيمانهم لسوء خلقهم، وغلبة الطبع الغضبي عليهم، حتى لا تجد لهم حظا من هذه الشعبة”(10).
ومن الأحاديث التي أوردها رحمه الله في هاته الشعبة والدالة على مكانة الأخلاق من الدين؛ حديث عن النوّاس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس” (11)، والبر اسم جامع للخير، من إيمان بالله وإحسان شامل للخلق (12).
(يتبع)
(1) عبد السلام ياسين، مذكرات في التربية، ص 125، دار السلمي للتأليف والترجمة والنشر والطباعة والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة 1، 1963م.
(2) نفسه.
(3) نفسه.
(4) نفسه، ص 126 بتصرف.
(5) نفسه، ص 126.
(6) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: 35.
(7) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 137.
(8) نفسه.
(9) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص 253، ط 1، 1998م، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت.
(10) نفسه، ص 148.
(11) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، رقم: 2553.
(12) عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، ج 1، ص 125، ط 2، 2018م، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت.