الريع.. استنزاف للثروات ومفسدة للاقتصاد

بقلم: فدوى أزطوط
يتميز بلدي الحبيب المغرب بخيرات وفيرة؛ من أنهار تتدفق من قمم السلسلة الجبلية الممتدة من شماله إلى جنوبه، ومن أراضٍ شاسعة خصبة التربة تعطيك ألذ المنتوجات الفلاحية، وواجهتين بحريتين تجعل للمغرب موقعا استراتيجيا يستفيد منه في التجارة الدولية، ناهيك عن الثروات السمكية المتنوعة…
بلد يمتلك من المميزات الطبيعية الكثير لكن شعبه أنهكه الفقر والجهل، أنهكه غلاء المعيشة وانتشار البطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية، مما دفع بفئات كبيرة من الشعب في السنوات الأخيرة إلى الخروج للشارع احتجاجا على السياسات التعسفية، التي يعزي المواطن العادي أسبابها إلى تفشي اقتصاد الريع، المرتبط في أذهان المغاربة باستئثار نخبة من ذوي النفوذ والمقربين من دائرة الحكم للامتيازات الناتجة عن احتكار واستغلال الرخص والمأذونيات، أو ما يسمى شعبيا «بالكريمات» المرتبطة بالمشاريع الأساسية كوسائل النقل الطرقي، واستخراج الرمال والأحجار من المقالع، والصيد في أعالي البحار، والمعادن بأنواعها والعقار والصفقات العمومية…
فما المقصود باقتصاد الريع؟ وما خصائص الدولة التي تتبنى سياسة اقتصادية ريعية؟ وهل حقا اقتصاد الريع مسؤول عن الأوضاع الاقتصادية المزرية؟
يعرّف اللغويون الريع بأنه وقت النموّ، وبالكسر يقصد به المكان المرتفع من الأرض. وأرضٌ مَريعَةٌ بفتح الميم، أي مُخْصِبَةٌ، فاقتصاد الريع أو الاقتصاد الريعي هو اعتماد الدولة على مصدر واحد للريع أي الدخل، وهذا المصدر غالبا ما يكون مصدرا طبيعيا ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه وتوزيعه وبيعه، وفي العلوم السياسية ونظرية العلاقات الدولية؛ الدولة الريعية هي الدولة التي تستمد كل أو جزءا كبيرا من إيراداتها الوطنية من بيع أو تأجير مواردها الأصلية للعملاء الخارجيين.
ومن التعريفات الأُخرى لاقتصاد الريع؛ اعتماد الدولة في اقتصادها على مصدر طبيعيّ مستخرج من الأرض، فيصبح الاقتصاد مُعتمداً على التبادل التجاريّ الذي يؤدي إلى ظهور مُجتمعٍ استهلاكيٍّ مرتبط بالاستيراد، كما لا يهتمّ هذا النوع من الاقتصاد على الزراعة أو الصناعة التحويليّة، وإنما يعتمد بشكل كلي على المبادلات التجارية القائمة على بيع الموارد الطبيعية المستخرجة دون بذل جهد تحويلها مقابل مواد استهلاكية، مما يؤدي إلى اختلال الميزان التجاري القائم على ارتفاع تكلفة الاستهلاك مقابل تبذير المصادر الأساسية للدخل العام للدولة.
وتتميز الدولة التي تعتمد في سياستها الاقتصادية على الريع بأربع خصائص رئيسية وهي:
– سيادة اقتصاد الريع في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإدارية والاجتماعية.
– اعتماده على الإيجار للخارج بشكل كبير، وبالتالي غياب الحاجة لقطاع إنتاجي محلي قوي. أي فتح المجال أمام كبريات الشركات العالمية لاستنزاف المصادر الطبيعية.
– نسبة صغيرة من السكان مشاركة في توليد الريع والاستفادة منه، وهؤلاء إما من أفراد العائلة الحاكمة أو أصحاب الولاء السياسي.
– السلطة الحاكمة المتجسدة في مؤسسات الدولة الدستورية؛ كالحكومة والبرلمان هي المستفيد الأول من الإيجار الخارجي أي الاستثمارات الخارجية..
ويجمع علماء الاجتماع والسياسة والفلاسفة أن اقتصاد الريع يظهر في الدولة التي تتسم بالحكم الفردي الاستبدادي، فهي بالأساس لا تعتمد على الشعب ولا على تأييده، فغالباً ما تكون موارد هذه الدولة المالية جيدة وليست بحاجة إلى أي موارد اقتصادية صناعية أو زراعية، والتي تعتمد بشكل أساسي على الشعب وإنتاجه. الدولة ذات الاقتصاد الريعي في الغالب دولة غنية، ولكن هذا الغنى لا تستفيد منه كل شرائح المجتمع بعدالة، ويعود هذا إلى سوء توزيع الدخل وهو ما يؤدي بالضرورة إلى ظهور لوبيات تتحول تدريجياً إلى شبكة اقتصادية تحتكر لنفسها كل نشاطات المجتمع، وتجعل من المواطنين سوقا استهلاكيا إجباريا.
ويمكن إجمال نتائج اقتصاد الريع على الحياة العامة واستقرار البلد سياسيا واجتماعيا فيما يلي:
– انتشار فكرة الربح السريع في المجتمع، ولو بطرق غير مشروعة، وتبخيس دور العمل وأهمية الإنتاج.
– تقويض منظومة السوق، من خلال سيادة الاحتكار والمنافسة غير الشريفة، وتثبيط دوافع الاستثمار والعمل المنتج في الاقتصاد الوطني.
– استنزاف موارد الدولة المحدودة في نفقات وهمية أو غير مجدية، دون تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين.
– حرمان الخزينة العامة من رسوم أرباح الشركات، بسبب المزايا والتسهيلات الممنوحة من طرف الدولة.
– زيادة الفجوة بين طبقات المجتمع حسب الاقتراب أو الابتعاد من دائرة السلطة.
– العلاقات بين الحاكم والمحكوم هي علاقة مبنية على قدرة من يملك ويعطي (السلطة) ومن ينتظر المنح والهبات (الشعب) .
– صعوبة إحداث إصلاحات سياسية، لأنه يتطلب تغييراً جذرياً في شكل الحكم، وهذا ما لا تسمح به القيادة المسيطرة، والتي تحتكر الاستيلاء على الريع وتتحكم بتوزيعه، وبالتالي تبني سلطتها السياسية على ديمقراطية زائفة قائمة على تداول السلطة بين النخبة المستفيدة من الوضع.
– الدولة الريعية لا تهتم فيها السلطة الحاكمة بالتعليم كثيراً، وغالبا ما يكون التعليم ذو مناهج فارغة المضمون، لأن الدولة لا تكون بحاجة ماسة إلى المجتمع المتعلم، فاقتصادها أولا وأخيراً يعتمد على الريع الذي عادة يكون طبيعياً وليس بحاجة إلى مهارات كثيرة لاستخراجه أو إنتاجه، فلا حاجة لمجتمع صناعي يتميز بيد عاملة مؤهلة ومؤطرة، لذلك تجد الدولة الريعية لا تساهم أبدا في تنشئة سياسية ودينية وتربوية توعوية للمواطنين.
ومجمل القول إن اقتصاد الريع قائم على جمع السلط في يد فئة قليلة تستمد قوتها من السلطة السياسية المتمثلة في المصالح المتبادلة بين رجال الأعمال والساسة وبين السلطة الحاكمة، كما تستمد سلطتها من القوانين التي تتيح لها حق الامتيازات بحجة خدمة الوطن. والأهم من كل هذا تمدد اقتصاد الريع واستفادته من كل قطاعات الدولة بسبب غياب الوعي والإرادة عند الشعب في أخذ زمام تسيير الوطن، لذلك عند الحديث عن أي إصلاحات تمس حق المواطن في ثروات بلاده لابد من استحضار والعمل على فصل النظام الحاكم للبلد عن دواليب الاقتصاد.
وصدق ابن خلدون عندما قال إن “التجارة من السلطان مضرة بالرعايا، ومفسدة للجباية”.