عَود على بدء.. قصة قصيرة

بقلم: فاطمة الدخيل
كان الوقت متأخرا، وكانت تسند رأسها إلى حافة النافذة، تتطلع إلى السماء بعيون متورمة وجسد غطته كدمات زرقاء…
سيول من الدموع تجرف بهاء خديها، ومن صدرها تنبعث آهات حرّى تعكس لهيب نفسها المحترقة.
التفتت بانكسار، وألقت نظرة على صغيرها المُتكوِّم في جانب السرير، شردت ببصرها بعيدا فتراءت لها طفلة صغيرة ترتجف في حضن أم تلقت لتوها صفعة قوية على وجهها، وصكت مسامعها عبارات شتم وقذف، وهي جامدة كأنها جثة هامدة…
كبرت الصغيرة وكبرت معها قناعتها أن الخنوع والاستكانة سبيل حياة، لم تساعدها ظروف عائلتها المادية على إتمام دراستها، فغادرتها مبكرا لتنتقل بين المنازل خادمة يوكل لها من الأعمال ما لا يراعي طفولتها وضعف بنيتها…
تحولت ببصرها مرة أخرى إلى السماء، ووسط نجومها البعيدة رأت الطفلة قد صارت شابة جميلة يراودها صاحب المنزل عن نفسها، وتلتهمها العيون الكاسرة كلما مرت بزقاق لبعض حاجاتها.. تسمع عبارات سمجة فجة فتخيل لها نفسها أنها بضاعة معروضة في سوق النخاسة.
لم تتجاوز بعد عتبة العشرين عندما طرق باب أسرتها خاطب هو ابن الجارة المدلل، الشاب الوحيد بين ست بنات، وبعد أيام معدودات أقيمت الزينة ونصبت الموائد، إنه يوم العرس..
انتقلت الشابة اليافعة الحالمة بحياة أفضل إلى بيت زوجها.. وإن هو إلا شهر واحد حتى اكتشفت أنها لم تأت زوجا، بل خادما للكبير والصغير يمنّون عليها كسرة الخبز وقطعة الثياب.. لا حق لها في الرفض والاحتجاج وإلا فالسوط جوابها…
وعادت إلى ذهنها مرة أخرى صورة أمها…
مراجل الغضب تغلي داخلها، لكن عينيها جامدتان وشفتيها مطبقتان، ومع كل كف تهوي على وجهها تحس أن روحها مزقت أشلاء..
يشدها إلى البقاء فقر أسرتها وحاجتها إلى سقف يأوي صغيرها.. ويحثها على الهروب كرامتها التي تسحل وتقتل كل ليلة..
لكنها لم تعد تطيق المكوث، وكأن ما في جعبتها من صبر قد نفذ، وكأن الموت والحياة قد أصبحا عندها سيان..
ابتعدت عن النافذة، حملت طفلها بين ذراعيها الواهنتين وكأنها تستنجد به، وخرجت تحت جنح الليل يلفها الظلام، ويصك مسامعها صوت النباح…