«نِحْلَةُ الغالب»

عبارة «نِحْلَةُ الغالب» صاغها ابن خلدون رحمه الله وأودعها ملاحظته الثاقبة المشهورة التي تقول: إن المغلوب يقلد الغالب. ولنسمع كلامه.
قال رحمه الله في المقدمة : «فصل في أن المغلوب مولَع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».
«والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقَر عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقادا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به».
كلمات نتأملها لنكشف المداخل النفسية من تعظيم الغالب لقوته، ثم الانقياد له، ثم مغالطة النفس وإقناعها أن الغالب القوي أكمل، ثم رسوخ كل ذلك عقيدة، ثم انتحال جميع مذاهبه والتشبه به والاقتداء في الشعار والزي وسائر الأحوال والعوائد. ونزيد نحن: والثقافة والسياسة التابعة والاقتصاد الاستعماري وتبرج النساء وتفسخ الأخلاق. إلى آخر الأوبئة.
في فصل آخر من المقدمة يتحدث ابن خلدون رحمه الله عن «دين الانقياد». يقصد بذلك ما تتوارثه الأجيال الرازحة تحت نِير الملك العاض والجبري من عادة الخضوع للحاكم، إلى أن يصبح ذلك الخضوع عقيدة راسخة متجذرة في النفوس، لا تنكر ولا تغير ولا تتحدث عن إنكار النفوس المتدينة لذلك الدين المتدنية المنحطة.
النِّحلة لغة الدين. فهما مرضان في جسم الأمة ممتزجان في مرض واحد: مرض موروث عن انحطاط قرون، ومرض طارئ هو ما أصابنا من الاستعمار. هما دينان يصبان في عقيدة واحدة: دين الانقياد ونحلة الغالب حسب تعبير حكيمنا ابن خلدون رحمه الله. مرض ونحلة ساكنان في جسم الأمة وعقلها ونفسها.
في أسفار التاريخ وفي ذاكرة الأمة سرد لما ارتكبه الاستعمار ويرتكبه من مخاز ومظالم وفظائع..
تزول مع الأيام الآثار العمرانية الاقتصادية مما يجنيه الغالب في حق المغلوب. وتبقى الإصابات الذهنية النفسية الثقافية التي تخضع لها النفوس تتجرعها كرها، ثم تبررها مغالطة، ثم تتبناها تقليدا للنحلة الغالبة، ثم تصطفيها عقيدة ومذهبا ونمط حياة وأسلوب حضارة وغاية وجود. رواسب فينا متراكمة طبقا عن طبق.
مع الهوى الفردي ونزغات الشياطين يسكن في أعماق نفوس المسلمين مثبط التشبه وخاذل المماثلة. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التشبه بالكفار في أحاديث كثيرة أوصلها بعض الحفاظ إلى ثمانين حديثا.
«نحلة الغالب» ميل من نفس المغلوب وانهزام، حتى ولو لم تكن للغالب خطة «لتنحيل» المغلوب. فكيف والاستعمار الحاضر له خطة واستراتيجية وتكتيك للغزو الثقافي الاقتصادي السياسي، ووسائل إعلامية مالية عسكرية!
كيف والغالب أصبح له بين ظهرانينا من بني جلدتنا خلفاء ووكلاء متشبعون ومتشبعات بمذهبه وعاداته وفكره. مخلصون ومخلصات لقضيته في صميم الأمر وإن كانوا وكن يدعون الوطنية والنضال لنصرة القوم!
عصرنة لاييكية قبل كل دين. هذا نداء الغالب يردده بين ظهرانينا الوكلاء والوكيلات. و يدعو الله ربنا إلى اقتحام العقبة، ويرسم رسوله صلى الله عليه وسلم المنهاج الواعد بالرشد للأمة والفلاح للمتقين. فما مكانة أخت الإيمان من القوة الاقتحامية، ما حظها من الجهاد؟ ما نصيبها من حمل العبء الثقيل؟
عبد السلام ياسين، كتاب “تنوير المومنات”، ج 1، ص 22 – 23 – 24.