الفقه المنحبس

بعد انتكاسة سقوط الخلافة الراشدة تهاوت الأمة في دركات التخلف تدريجا على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فكان ذلك دافعا لتبلور أنماط من التفكير تساير الأوضاع السائدة وتسدد وتقارب في نظرها لتسير عجلة الحياة وفق ما انتقض من عرى الإسلام 6.
والفقه المنحبس لبوس جديد لبسه الفقه إبان انحطاط الأمة، وقد تميز في تعاطيه مع قضايا المرأة بتوسعه في استعمال سد الذرائع، فكان خوف الفتنة دافعا نحو الانكماش وإصدار فتاوى تضر بالمسلمة على الخصوص، وإن كانت تلك الفتاوى مرجوحة رجحانا بينا في أصلها ودلالتها.
تقول الدكتورة رقية العلواني في توصيف الحالة الاجتماعية والأعراف المتعلقة بالمرأة في عصور التقليد المتأخرة: “وأضحى سد الذريعة سلاحا مشروعا في وجه أي دعوة لاستعادة مكانتها التي بوأها إياها الإسلام، من دعوة إلى تعليمها أو مشاركتها في الحياة العامة فالتعليم يقتضي خروج المرأة من بيتها وخروجها فتنة، فتمنع من التعليم سدا لذرائع الفساد” 7.
ويسوق القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في توصيفه لحالة نساء نابلس نصا ناطقا بحال المرأة في ظل سيادة الذهنية التحوطية جاء فيه: “ولقد دخلت نيفا على قرية من برية فما رأيت أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل عليه السلام في النار، فإني أقمت فيها أشهرا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن عليها حتى يمتلئ المسجد بهن، فإذا قضيت الصلاة وأقبلن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى ترى نساؤها متبرجات بزينة وعُطْلة منصرفات في كل فتن وعُضْلة. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه” 8.
فهل مجد عصر الرسالة امرأة بمكثها في بيتها أم إنه انقلاب في تصور الحضور الفاعل للمرأة، وهي في ذلك تبع للفقه العام التابع المؤطر من الحاكم المتسلط، يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين: “واصطبغ الاجتهاد بصبغة الاضطرار فيما عدا العبادات الفردية من طهارة وصلاة وصيام وحج، وتقلص الفقه في حدود ضيقة لما وقع على العلماء ضغط الحاكم الذي يريد الناس على طاعة لا يخولها له الشرع. فهجر الفقهاء قضايا الحكم، وأخلَوْا الساحة، ففقه الحكم في تراثنا يكاد يكون قاعا صَفصَفا وفقه حقوق المرأة تابع. ضاعت حقوقها مع حقوق الكافّة” 9.
وتصف الدكتورة رقية الحالة الاجتماعية التي كانت تحكم الذهنية الفقهية آنذاك فتقول: “أما على الصعيد الاجتماعي فقد برزت الذهنية التحوطية التي تتبنى مبدأ الأخذ بالأحوط، خاصة فيما يتعلق بأحكام المرأة. وتساند هذا المبدأ فكرة العمل بسد الذريعة. وسد الذريعة سلاح دفاعي يستعمل عند تغلب مظاهر الرذيلة في المجتمعات، والتخوف من الوقوع في المحظور والفتن” 10.
وقد أسهم هذا النوع من الفقه بشكل واضح في إبعاد المرأة المسلمة عن ساحة الفعل في المجتمع، وكاد يخبو ذكرها في كتب الفقه وغيره من العلوم، ما عدا ما تعلق بفقه طهارتها، ونزر يسير من ثانويات شؤونها، لتظهر بالمقابل في صورة الملهمة المتغنى بها في غزل الشعراء وشطحاتهم.
(..)
تتمة المقال على موقع ياسين.نت.
[2] د. العلواني رقية طه جابر، أثر العرف في فهم النصوص، قضايا المرأة نموذجا، ط 1، 1424هـ – 2003م، ص 143.
[3] ابن العربي أبو بكر محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، تحقيق رضى فرج الهمامي، بيروت، المكتبة العصرية، ط 1، 1424 هـ – 2003 م، ص 460/3. وقد قال رحمه الله هذا الكلام في تفسيره لقوله تعالى (وقرن في بيوتكن) من سورة الأحزاب.
[4] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/65.
[5] د. العلواني رقية طه جابر، أثر العرف في فهم النصوص، قضايا المرأة نموذجا، ص 136.
[6] أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة”. مسند الأنصار، تحت رقم 22160.
[7] د. العلواني رقية طه جابر، أثر العرف في فهم النصوص، قضايا المرأة نموذجا، ط 1، 1424هـ – 2003م، ص 143.
[8] ابن العربي أبو بكر محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، تحقيق رضى فرج الهمامي، بيروت، المكتبة العصرية، ط 1، 1424 هـ – 2003 م، ص 460/3. وقد قال رحمه الله هذا الكلام في تفسيره لقوله تعالى (وقرن في بيوتكن) من سورة الأحزاب.
[9] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/65.
[10] د. العلواني رقية طه جابر، أثر العرف في فهم النصوص، قضايا المرأة نموذجا، ص 136.