الشعيري منظور: الدولة مسؤولة عن إيجاد بديل لامتهان التهريب المعيشي

يعرف معبر باب سبتة حوادث مؤلمة متكررة أشدها إزهاق الأرواح، خاصة في صفوف النساء، بسبب امتهان التهريب المعيشي. لفهم حيثيات هذه “المهنة” القاتلة، والبنية المغذية لاستمراريتها، وسبب لجوء عدد كبير من ساكنة المدن المجاورة لهذا النشاط رغم ما يحيط به من أخطار وأهوال يعيشها المهرب في كل لحظات العمل ثم لا يثنيه ذلك عن معاودة الفعل، ودور مؤسسات الدولة في إيجاد بديل اقتصادي يخرج سكان المنطقة من هذا الكابوس الذي يلجؤون إليه مضطرين.. حاور موقع مومنات.نت الباحث والناشط السياسي الأستاذ عبد الرحمن الشعيري منظور. هذا نص الحوار:
يسمى معبر باب سبتة “معبر الموت” لماذا هذه التسمية المخيفة؟
يعبر هذا التوصيف المحزن عن حقائق واقعية بمعبر باب سبتة، الذي أزهقت فيه على مرّ سنوات عديدة أرواح بريئة وخاصة في صفوف النساء “شهيدات لقمة العيش” اللائي أدت بهن ظروف الفقر والعوز إلى البحث عن مورد رزق ولقمة عيش من خلال امتهان التهريب المعيشي في ظل ظروف مأساوية حاطة بالكرامة الإنسانية، بل ومؤدية في أحايين إلى الموت بسبب التدافع الشديد أو الإنهاك أو بسبب السقوط على حافة الجبل إبان الانتظار في الطوابير الطويلة في عزّ الليل للولوج إلى المدينة السليبة سبتة، كما هي حالة الضحيتين الأخيرتين السيدة فاطمة البوشتاتي والشاب يوسف السدرواي رحمهما الله.
ترتبط سمعة المعبر السيئة بالنساء أكثر من الرجال، فهل يقتصر امتهان التهريب على النساء دون الرجال؟
لا يرتبط امتهان التهريب المعيشي بالنساء فقط، بل يعدّ التهريب المعيشي مورد رزق معظم سكان الفنيدق والمضيق وتطوان ومرتيل، فحيوية اقتصاد هذه المدن في مجمله شديدة الارتباط باستمرارية تهريب السلع من سبتة، ذلك أن معظم الأسواق التجارية المنظمة والعشوائية بالمنطقة وقطاع سيارات الأجرة والأنشطة العقارية من بناء وكراء، وكذا قطاع الخدمات وبالأخص المقاهي والمطاعم تتأثر رواجا وكسادا بمدى انسيابية نشاط التهريب المعيشي عبر معبر باب سبتة، إذا فالهوية التجارية لهذه المدن منذ الاستقلال وخاصة الفنيدق مرتبطة وجوديا بنشاط التهريب المعيشي الذي يمتهنه الشباب والرجال والكهول وحتى الأطفال القاصرين، وتمثل النساء أكبر نسبة من ممتهني “التهريب الخبزي” باعتبارهن أكثر ضحايا الفقر والحرمان ببلدنا لعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية متعددة تجعلهن أول ضحايا فشل السياسات العمومية المنتهجة.
لماذا تلجأ نساء المناطق المجاورة إلى ركوب أهوال هذه المهنة مع علمهن المسبق بما ينتظرهن من صعاب؟
صار امتهان التهريب المعيشي بمعبر باب سبتة منذ التسعينيات، ملاذا للعديد من المواطنين والمواطنات القادمين من مختلف المدن المغربية للانعتاق من آفة الفقر والحاجة، ومن ثم توسعت قاعدة ممتهني التهريب المعيشي، وبالأخص في صفوف النساء اللواتي يركبن أهوال هذه “المهنة” بصعابها ومآسيها بحثا عن مورد رزق يَعُلْن به أسرهن، خاصة وأن منهن أرامل ومطلقات. كما تفسر كثرة وجود النساء بمعبر باب سبتة إلى اشتغالهن كذلك كخادمات في منازل سكان سبتة سواء من ذوي الأصول المغربية أو الإسبان. وبفعل عمليات الإغلاق المتكرر لمعبر باب سبتة في وجه ممتهني التهريب والعمل المياوم بداخل مدينة سبتة، لحظت كمهتمّ ارتفاع نسبة مغادرة السكن بمدينة الفنيدق من قبل هؤلاء النسوة، وكذا ارتفاع معدل جرائم السرقة وحالات الطلاق ومؤشرات الفقر والحرمان في مدن المضيق، الفنيدق مرتيل، وتطوان، إذ لا مورد رزق لمعظم سكانها إلا من منظومة التهريب المعيشي.
هي مهنة محظورة لذلك تسمى “التهريب” وفي نفس الوقت تتم تحت أعين السلطتين المغربية والإسبانية، ويتم غض الطرف عنها. ما السبب في نظرك؟
لا يجادل أحد بأن التهريب نشاط تجاري محظور قانونا، ومضر بالاقتصاد الوطني. وهذا الإقرار يصدر حتى عن ممتهني التهريب المعيشي أنفسهم، لكن تبقى المقارنة القانونية قاصرة عن معالجة القضية، ما دام أنه “لا يسلك في أذن الجائع إلا صوت يبشر بالخبز”، ومن ثم فالتهريب المعيشي على الرغم من مخالفته للشرعية القانونية، إلا أنه يتأسس على مشروعية اجتماعية ناجمة عن عجز الدولة عن توفير بديل اقتصادي لأهل المنطقة، لذلك فعملية تهريب السلع مع ما تكتنفها من ظروف مأساوية (حمل للأثقال فوق ظهور نساء الحمالات، الاكتظاظ الشديد، التدافع، السب والشتم والركل في أحايين كثيرة من قبل رجال الجمارك والأمن المغربي والإسباني) تبقى الملاذ الوحيد لمعظم ساكنة المنطقة، ومن ثم فالسلطات المغربية تتعامل مع ظاهرة التهريب المعيشي بمزاجية؛ فتارة تمنعه وتارة تغض الطرف عنه، لكن يبقى تعاملها العام مع الظاهرة متسم بالعجز عن إيجاد حلول جذرية توفر فرص الشغل وتحفظ الكرامة للمعنيين، وهذا ما اعترف به وزير الداخلية خلال رده على سؤال فريق الوحدة والتعادلية يوم الإثنين 29/01/2018 بجلسة الأسئلة الشفهية بمجلس النواب. أما الإدارة الإسبانية في سبتة فهي تستفيد من الوضع على المستوى المالي، لكن نظرا للإحراج الحقوقي للملف على الصعيد الأوربي ومع المعارضة المحلية والمجتمع المدني بسبتة، فقد انخرطت الحكومة المحلية التي يقودها الحزب الشعبي اليميني في مشروع لفك ارتباط اقتصاد المدينة بالتهريب من خلال إعطاء المدينة هوية سياحية جديدة مع التركيز على تطوير الاقتصاد المنظم.
يقال أن المستفيد من هذه المهنة هم بارونات التهريب، في حين لا يناسب دخل العاملات في التهريب ما يعانينه نفسيا وجسديا جراء كثرة حمل الأثقال والتدافع والسب من طرف أمن الحدود. ألا يستطيع طرف ثالث التدخل لموازنة الأمر؟
الجميع يعرف أن المستفيد الأكبر من التهريب هم أصحاب رؤوس الأموال الكبرى في هذا النشاط التجاري غير المهيكل، لكن المتابع لملف التهريب على الصعيد الوطني؛ سواء في الموانئ الكبرى للبلاد أو عبر الحدود مع موريتانيا، يتبين له بأن بارونات التهريب المعيشي بالشمال في معبري سبتة ومليلية – وأنا هنا لا أدافع عنهم بقدر ما أفسر – لا يمثلون العُشر من القوة المالية للتهريب الكبير في الموانئ التجارية الكبرى للبلاد. لذا فقضية التهريب المعيشي بالشمال معضلة اجتماعية تتطلب حلولا اقتصادية حقيقية لتوفير البديل للتجار وممتهني التهريب من النساء والرجال، فنحن أمام منظومة مجتمعية شاسعة مكونة من عشرات من الآلاف من الناس يرتبط معيشها اليومي من التهريب. وللأسف لا يوجد طرف ثالث يمكن أن يسهم حقيقة في حلّ الإشكال، فالمجتمع المدني ضعيف ولا سلطة له إلا التنديد والاقتراح، والاتحاد الأوربي رغم مسؤوليته القانونية في معبري سبتة ومليلية ضمن ما يعرف “بالحدود الخارجية للاتحاد الأوربي” جلّ تركيزه ينصب على تأمين الثغرين من اقتحامات المهاجرين غير النظاميين من دول جنوب الصحراء، ولا تثار قضية إهانة كرامة في أجندة الاتحاد إلا على مستوى البرلمان الأوربي.
فكيف إذن نستطيع تجنيب هؤلاء المواطنين هذه “المهن” القاتلة؟
في ظل كل هذه المعطيات، تبقى مسؤولية الدولة المغربية هي المستند لإيجاد فرص شغل لائقة لممتهني التهريب المعيشي، وبالأخص في صفوف النساء، وذلك من خلال بلورة وتنفيذ خطة عمل اقتصادية عاجلة تروم تفكيك منظومة التهريب وإدماجها في الاقتصاد الوطني. كما أن المجتمع المدني مدعو للإسهام في التخفيف من معاناة “النساء الحمالات” عبر مشاريع وتعاونيات مدرة للدخل ضمن أسس الاقتصاد التضامني، ولن يتأتى النجاح الحقيقي للخروج من معضلة التهريب وباقي الإشكاليات الاجتماعية في المنطقة الشمالية الحدودية (زراعة قنب الهندي، الهجرة السرية..) إلا بوجود تعاقد سياسي مؤسس على الديمقراطية في الحكم والتنافسية في الاقتصاد والتوزيع العادل للثروة في كافة البلاد.