شعائر الله أسرار ومعاني

يقول الله تعالى في الآية30 من سورة الحج:ذلك، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، يقول ابن عباس:شعائر الله هي مناسك الحج,)وقال ابن منظور:شعائر الحج مناسكه وعلاماته وآثاره وأعماله) 2 . وشعائر جمع شعيرة وهي كل ما جُعل عَلَماً لطاعة الله كالوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والرمي والذبح وغيرها، ومنها التلبية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:”مُرْ أمتك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج”، ومنها البدن التي يوضع عليها إشعار أي علامة لتهدى إلى البيت:والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، والمشعر الحرام موضع من مشاعر الحج، لقوله تعالى:واذكروا الله عند المشعر الحرام.
وقوله تعالى:فإنها من تقوى القلوب، أي إن تعظيم الشعائر من التقوى والتقوى محلها القلب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التقوى هاهنا” وأشار إلى صدره، فالتعظيم ناشئ من التقوى التي مصدرها ومحلها القلب وتقوى القلب بصلاح السر وإخلاص النية للانتقال بعدها ومعها إلى تعظيم الجوارح بالأفعال
ومع هذا التعظيم يدخل تعظيم الحرمات كحرمة الشهر الحرام وحرمة البيت وجواره وحرمة المؤمن، وتعظيم شعائر الله يشترك فيه كل من الحاج والحالِّ مادام التعظيم مصدره وأصله القلب، تم يقرنه الحاج بتعظيم الجوارح والقيام بالأعمال المرتبطة بالحج، كما أن الحج ركن مخصوص بالزمان والمكان ليس ككل العبادات لها زمان أو مكان.
وها هي الأيام العشر المباركة أهلت علينا وما فيها من مشاعر، إنها إحياء لذكرى الملة الإبراهيمية مع كل شعيرة من الشعائر على خطى الحبيب صلى الله عليه و سلم، حين منَّ الله تعالى على سيدنا إبراهيم بولده إسماعيل ثم أمره أن يذهب به وبأمه ويتركهما عند البيت الحرام في حمى الله و حفظه، وبدأت سيدتنا هاجر بالسعي بين الصفا والمروة بحثا عن الماء و كلها افتقار ورجاء لعلها تسقي رضيعها، فضرب الرضيع برجله الصغيرة الأرض فانبجس منها الماء المبارك بأمر من الله، وكبر الرضيع وقد استحوذ على قلب أبيه، فأُمر سيدنا إبراهيم بذبحه ويا له من ابتلاء عظيم، ووسوس الشيطان لإبراهيم ليحجمه عن أمر ربه فجمع سيدنا إبراهيم الحصى ورماها به عند الجمرات الثلاث، ثم تنزلت رحمة الله وفدى ابن خليله بذبح عظيم وأكرمه بولادة جديدة، ورفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت وأذن سيدنا إبراهيم في الناس بالحج وهو يعتلي المقام …فلبى من لبى وما زال يلبي كل من دعاه الله إلى بيته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيُقبل ضيوف الرحمن من كل البقاع بشتى أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وهم يقتفون كل هذه الآثار المباركة ويرجون الله جميعا على صعيد عرفة معترفين بذنوبهم وهم على هيئة واحدة كخروج العالمين من قبورهم يوم البعث، تلهج ألسنتهم بالدعاء استدرارا لرحمة المولى، فبعرفات يقف العبد مع نفسه ويعترف بذنبه، فيكون بذلك على موعد مع ولادة جديدة، ولكل ولادة مخاض، فيجد نفسه في حيرة وقلق فيما يسأل الله تعالى وبما يبدأ به، حتى يقترب وقت الغروب فينطلق قلبه ولسانه بالدعاء إيذانا بتنزل الرحمات وولادة جديدة بعد مخاض، فينادي الله تعالى في ضيوفه أني قد غفرت لكم وإنه والله يوم استلام العفو والمغفرة من الكريم الجليل .
فإحياء ضيوف الرحمن لهذه الذكريات لابد أن تصحبها كل المعاني القلبية المرتبطة بها وهي من تقوى القلوب، وكان هذا دأب الصالحين، فعندما تعقد الحج تنوي أن تفسخ كل عقد يخالف هذا العقد وإذا تجردت من ثيابك تتجرد بذلك عن كل ما نهيت عنه وتجرد قلبك لله وتفوض أمورك له، وعند اغتسالك تغتسل بماء التوبة وتلبس كسوة الصفاء وإذا لبيت تكون تلبيتك استجابة خالصة لله و تعظيما لندائه الأبدي، وإذا طفت بالبيت طاف بقلبك عظمة من تطوف ببيته وهرولت هرولة فار من هواك، وإذا شربت ماء زمزم نويت أنك تغسل به قلبك من حب الدنيا ووساوس الشيطان، وإذا سعيت بين الصفا والمروة تسعى بذلك بين الخوف والرجاء، وإذا خرجت إلى منى أمنت بذلك الخوف، وإذا وقفت بعرفات اعترفت بخطاياك، وإذا بتَّ بالمزدلفة سكنت بها جوارحك لرحمة الله تعالى، وإذا رميت الجمار نويت بذلك أنك ترمي عيوبك وشهواتك ووساوس الشيطان، وإذا حلقت رأسك تنوي بذلك إسقاط الذنوب والخطايا كلها، وعند ذبحك الهدي اذبح معه هواك وشيطانك، وعند رجوعك إلى مكة وطوافك بالبيت تنوي أنك ترجع عن كل معصية وعن كل ما يغضب الله وتستقيم على شروط عهدك، ثم اسأل الله المنان أن لا يجعل هذا آخر عهد لك ببيته.
ها هي مناسك الحج قد اقترب دخول وقتها فلنقتسم بركة الزمان مع ضيوف الرحمن، ولنقف على بابه تعالى يوم عرفة صائمين متضرعين ولنعرض حوائجنا عليه و حاشاه تعالى أن يردنا خائبين.