“وقالوا لا تنفروا في الحر”

وبينما أحاول الابتعاد في التخمين واستجلاب الدر الثمين من معاني ودلالات المفردات وتوارد الإشارات من هنا وهناك يمر وقت أطول مما نصبته لنفسي كي تلتزم.. فلا أقل من طرد التسويف بالتشمير..والحياد عن الركون للنفس إلى التسليم للرب جل في علاه.. وما رحيل الأحبة إلا إشارة حسنة لمن ألقى السمع وهو شهيد وسارع بالتقى قبل منادي الرحيل.. فالكلمة حرفة قد تنجي صاحبها إذا ما حوت صدقا وتضمخت ذكرا فلامست زرعا يلتمس قطرا.. فنعم الغياث كلمة حانية ودلالة مرشدة.. وعلى الله قصد السبيل.
“وقالوا”..المثبطون مجهولون..إذ السكوت عن ذكرهم رحمة للنفوس الضعيفة أن تتبعهم وللأرواح المتمكنة أن تتكدر بظلمانيتهم فهم عند الله هباء..جمع تآمر على القول الشنيع حين تحفز الصادقون للمسير.. وكأنك بالخيول أسرجت وبالزاد انجمع وتوفر وبالنية عقدت وبالحادي وقد أعد للطريق حداء وتجويدا..فلا تنصت لقول جهول غير مذكور..وإذا هممت بأمر خير فبادر ولا تلق السمع لكائد غادر.. واستعن على الهمة بالصحبة واطرد الفكرة بالعبرة ولازم من تعرف نصحه وسبقه..ثم الله يتولى الصالحين.
تنهى العصبة المتربصة قطعا وأمرا ..وكذا يفعل المنافقون في كل أمة خلت ..فهم مصائب البلاد والعباد ومهلكوا الحرث والنسل..حرث الايمان ونسل أرباب الصلاح..“لا تنفروا”..وإذا استطعت للكتمان طريقا فهو أزكى لعملك وأصلح ..فاذا ما علم اللصوص طريقك قطعوا عليك سبيل نجاتك.. وإن كان ولا بد فكن القوي الذي يُهاب ولا يَهاب..كما كان الفاروق رضي الله عنه تفر منه الشياطين في الطرقات والمسالك..المنور بحفظ الله والتزام أمره متحصن بخير حصن وأمتنه..
إن من لا عقل له ولا رأي يعيب الطقس ويتشاءم بالأيام والحوادث فقلوبهم منكرة وأهواؤهم مع زيغهم متقلبة..والنفير أهبة ونداء بلغ الأسماع.. وعظ يحاول حث أرباب النهى لتطرد الوهم والكسل ..”لا تنفروا” ..ودوا لو ظفروا بعزمتك تلك ففتتوها وفتكوا بها.. لأن الحاسد الخامل يُقعد غيره عن المعالي فتطيب نفسه.. وبئس البضاعة الخذلان..
قد أيس البطالون من استقامتهم فهم يخوضون في أمر مريج وكدر لا صفو فيه إلا بإذن الله العليم..وكأني بالكلمات تنهاك عند كل حرف ومعنى أن تميل إليهم.. في لغتها مقت لوصفهم وعذرهم وحجاجهم..“الحر” عندهم مذاق قد عانته أكبادهم إذ صدق المولى عز وجل القائل في محكم كتابه ألا بذكر الله تطمئن القلوب والغافل المغفل ناره في قلبه وحشاه تلسعه في كل آن فبها يهذي وإليها يشير وإنما إن فهمت يا صاح لعلمت أن بالقوم هلكة فافهم عن المولى إشارته..
قل نار جهنم أشد حرا..الرد على المنافقين حاسم فكن ذا عقل فطن.. كالحسام يقطع حبل الشك باليقين ..فاقطع حبال الدنيا وشراكها بذكر الدار الآخرة..وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون.
يقول عز وجل: لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين.
..للمنافقين وسط صفوف المؤمنين متسمعون يتصيدون الأخبار فيتناقلونها..فلا تحزن أن ثبطهم الله وأقعدهم وذلك من تمام عنايته عز وجل بعباده وأحبابه..فإن بدت للعين قلة العدد فللروح مقياسها ورؤيتها للمدد الإلهي..وماكانت يوما الغلبة بالأرقام ولا الإتكال على الحول والقوة والله يهدي إلى الرشاد وإلى سواء السبيل..
لقد قسموا لك الأيام والشهور فقالوا هذه للدراسة وتلك للراحة والدعة..فإذا نظرت بعين المبصر عيوبه بان لك سوء ما ينفث أولئك وسط الجيل الاسلامي..وانظر الى أبنائهم كيف يزرعون فيهم استغلال الثواني والأنفاس وفينا يزكون التراخي والخذلان..خطة المدرسة الصهيونية الشيطانية قد تمكنت في كل البلدان..فاحذر أن يسلبوا منك تحرر عزمك وبصيص الإرادة فما كان العلم يوما مرتبطا بمقاعد الدراسة ولا بشهر دون آخر..وأفضل العلوم هو علم يوصلك الى الله ويضعك على أول الطريق ثم تبقى سائر العلوم خادمة له..في الوقت الذي يتنافس فيه الصالحون في القرب من الله وأعمال البر أصبح الكثرة يتنافسون في عدد الخرجات والرحلات فمقت الصغار ألم الجد وغاب عنهم الحزم فرأوه ظلما وتعسفا على طفولتهم وكذا هذا الداء انتشر واستقر..والى الله المستقر..يقول عز وجل ..أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
..ومع تسارع الزمن في دورانه وسرعة تقلب أحواله حري بالعبد المحب أن يكون جامعا للخيرات ومحصلا للبركات كيما يفوز قبل توقف ساعته في الدنيا..قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..إن بين يدي الساعة أياما تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة..
.. ومع تربية الهمة رفق مع النفس التي لم تتقو بعد..فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.. إلى أن يتمكن فيها حب الله عز وجل ليصير هواه تبعا لمراد مولاه..
يقول أبو إسحاق الإلبيري رحمه الله:
أَنتَ المُخاطَبُ أَيُّهـا الإِنسـانُ * فَأَصِخ إِلَيَّ يَلُح لَـكَ البُرهـانُ
أُودِعتَ ما لَو قُلتُهُ لَكَ قُلتَ لـي * هَـذا لَعَمـرُكَ كُلُّـهُ هذيـانُ
فَاِنظُر بِعَقلِكَ مِن بَنانِكَ وَاِعتَبِر * إِتقـانَ صَنعَتِـهِ فَثَـمَّ الشـانُ
لِلَّهِ أَكيـاسٌ جَفَـوا أَوطانَهُـم * فَالأَرضُ أَجمَعُها لَهُـم أَوطـانُ
جالَت عُقولُهُـم مَجـالَ تَفَكُّـرٍ * وَتَدَبُّـرٍ فَبَـدا لَهـا الكِتمـانُ
رَكِبَت بِحارَ الفَهمِ في فَلَكِ النُهى * وَجَرى بِها الإِخلاصُ وَالإيمانُ
فَرَسَت بِهِم لَمّا أَتَوا مَحبوبَهُـم * مَرسىً لَهُم فيهِ غِنـىً وَأَمان