المسلمة والخصال العشر «الخصلة العاشرة: الجهاد»

تنتهي الخصال السابقة وتثمر قطفا مباركا هو الجهاد بمعانيه المتعددة، إذ أن الجهاد لا يقتصر على حمل السلاح والمبارزة في ساحات المعارك، بل يشمل في نظرية المنهاج النبوي المجالات الحيوية من الحياة الإنسانية، التعليم والصحة والاقتصاد والتدافع السلمي السياسي وما إلى ذلك مما ينفع الناس في حياتهم الخاصة والعامة.
وللقرآن إسهام في بناء تصور متزن للجهاد، ركز المولى سبحانه فيه على جهاد بناء الذات وتربيتها وإعدادها لما هو أشد من المهام والاستحقاقات، من ذلك البدء بتربية النفس وهو جهاد أكبر شامل يمكن من إعداد الإنسان بما يتناسب مع دوره المنوط به في الحياة. يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا[1] جهاد أكبر، قمع النفس، تقويمها، صبر، ذكر، تلاوة، قيام، هجر جميل يهيئ هجرة عازمة، تتلوها تعبئة، يتلوها جهاد في الله بأعلى ما يكون من الحوافز. كما يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله -)[2]
ومن هنا تنطلق المسلمة للمشاركة في الهبة الجهادية الجماعية للأمة في أفق بناء دولة القرآن الموعودة من الله تعالى في أحاديث رسوله المجتبى صلى الله عليه وسلم، تتلقى هذا النداء العلوي باستجابة ملبية متحمسة في سعيها تنظر بعين اليقين إلى ما عند الله من فضل فتدعو بدعاء الصالحين اللهم أنزل قدرك الموعود على أيدينا…
وقد أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد أهمية كبرى ودعا قولا وحالا إلى هذا الباب العظيم من أبواب الإسلام الذي يثير وللأسف ردود فعل سلبية عند البعض، وقد أبطله بعضهم خوفا وطمعا. ومن الأحاديث الواردة في الموضوع حديث “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”[3] على ما فيه من ضعف، يصنف الجهاد إلى أصغر وهو جهاد الفتوح، وجهاد أكبر وهو تربية النفس وسياستها وترويضها بما يصلح به حال المسلم.
والتزم المسلمون معنى الجهاد العام في حياتهم واعتبروا اقتحام الخطوب ومواجهة الملمات من الجهاد، ويعتبر كثير منه الصوم والحج والسعي لخدمة الناس من الجهاد، وهذا المعنى صحيح لأن الجهاد لغة هو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أَو فعل، وإن دل شرعا على قتالُ من ليس له ذمّة من الكفّار. فإن الكلمة تتوسع في مدلولها لتشمل الكفاح والذود عن حوزة الدين والوطن…
ولا يمكن أن يتحقق التغيير المنشود ما لم تلزم المسلمة نفسها بتربية إيمانية هي الجهاد المؤكد، لأن هدف التربية الإيمانية أن تخرج رجالا مجاهدين ونساء يشمرون عن أذيال الفضول، والمغريات وغرور الدنيا، والشيطان، والهوى، ويكشفون عن ساق الجد، ويغشون حلبة الأهوال، ويرقون مراقي الكمال) [4] وقد أكد الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله – أنه قبل تغيير المجتمع تغيير ما بأنفس الطليعة المجاهدة. ردع النفس المؤتمرة بأمر هواها حتى تقبل حكم الله، وتطيع شريعة الله، وتقلع عن السفساف لتتابع الروح في أشواقها إلى الله، وتطلعها لقرباه. جهاد أكبر. )ثم الجهاد الأصغر، جهاد ما هو خارج الذات المؤمنة من منكر أصبح حقيقة منكرا عندها لا تحبه بل تكرهه، لا تساكنه في سلوكها بل تقمعه، ثم تلاحقه خارجها لا بقانون الغضب الطبعي لكن غيرة على دين الله) [5]
ومن تم فالمسلمة أمام جهادين الأول وهو الجهاد الأكبر يتطلب منها نية وبذلا وعلما وعملا وسعيا وقصدا وصبرا وتؤدة ولا يتأتى لها ذلك إلا وسط ألفة من الأصحاب منظوم أمرهم على رشد، والجهاد بهذا المعنى يؤدي حتما إلى النوع الثاني وهو الجهاد الأصغر جهاد المدافعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق العدل في الأرض.
1 – متطلبات الجهاد
يتطلب الجهاد من المسلمة جملة من الأمور منها:
العلم: لابد للمسلمة المجاهدة من علم ينور لها طريقها، ويحميها من الزلل والخلل، ويكسبها مواقع هي أولى بكسبها ما لاذت بباب العلم وخصصت لنفسها وقتا وجهدا لتحصيله لأن العلم إمام العمل كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفا.
التضحية: وهذه ترتبط بما تسعى إليه نيتها وما تهدف إليه همتها من طلب وجه الله تعالى لأن المجاهدة تبيع نفسها لله لقوله تعالى: إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ [6]
الصبر: وهو أساس في الجهاد وعماد للاستمرارية إذ ليست الحياة نزهة وفسحة كلها بل هي عمل وجهد ومصابرة ومثابرة واحتمال للمشاق، وقد نبه الإسلام إلى أهمية الصبر في السلوك، وقد بينا ذلك في خصلة التؤدة وكونها تتأسس على الصبر.
نكران الذات: بمعنى التخلص من الأنانية التي طغت ولا شك على حياة الناس، وإن الجهاد نكران للذات وذوبان في الجماعة وإخلاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
2 – أبواب الجهاد
يقول الإمام المجدد رحمه الله: ولا بد لنا من ولوج كل أبواب الجهاد، ما سردت هنا وما تفتحه الحركة، لنكون على مستوى مهمتنا) [7] ومن تم خصص للجهاد أبوابا كثيرة ومنها:
جهاد النفس
بالتربية ويرى الإمام رحمه الله أنها مقدمة لازمة للجهاد! وأنها شرط لازم لمحبة الله عبده! وأنها بذلك تحقق الغاية الفردية والجماعية معا! و أن مظنة كل خلل في أبواب الجهاد الأخرى هو الخلل في التربية. فمتى وقف بنا الحال فيما نتحرك ونروم، فلنعلم أن حالنا مع الله في تدن وفتور. ومتى عم فينا الفشل فلنعلم أننا اتكلنا على حيلتنا فوكلنا الله إلى أنفسنا. ومتى ظهر فينا التنافس على الرئاسات والمناصب، متى أصبحنا أعزة على بعضنا أذلة على خصومنا وأعدائنا قلبنا الآية، فلنعلم أن الله لا يحبنا. )وفي كل ذلك نجدد التوبة، ونصحح النيات، ونذكر الله كيلا ينسينا أنفسنا. فإننا إن نسيناها ولم نتعهدها بالتزكية، وننورها بالعبادات، ونروضها بالعمل الصالح، هلكنا أفرادا وتنظيما وأمة. ورجعنا إلى حالة الغثائية ومرض الوهن) [8]
جهاد المال
يرتبط بالبذل والمال مهم في بناء الأمة ومدار تحقيق العدل في الأرض، وبذله يحمي الدعوة ويقويها. يقول الإمام – رحمه الله-: إن المال عصب كل تحرك بشري، والمال الطيب ينفق في سبيل الله، تقدمه الذمم الحية قربانا لله، هو عصب الجهاد. لذلك اقترنا في القرآن، ولذلك يسبق ذكر الجهاد بالمال ذكر الجهاد بالنفس. المال عصب الجهاد وشرطه. فالمؤمن يبرهن على صدق نيته في إنجاح القضية المقدسة ببذله ماله. فلا نعرف صدقه إلا من خلال بذله ماله وجهده) [9]
جهاد التعليم
لا تتحقق النهضة والرفعة لأمة من الأمم ما لم يكن التعليم أساسا تجتمع عليه كل الإرادات والمخططات والبرامج، وللمسلمة حتما هذا الدور الطليعي في إمداد الأمة بكل مقومات النصر والتمكين والتعليم في حاجة إلى بذل وجهد وجهاد متواصل ومدروس، سيما وأن ركب الأمم يسير بسرعة قل نظيرها وأمتنا لا تكاد تراوح مكانها في ذلك. واسترشادا بتوجيهات الإمام المجدد – رحمه الله – في ذلك يتطلب الأمر من المسلمة المساهمة في:إعادة بناء الهيكل التعليمي على قواعد إسلامية. )تطهير الأجهزة، ومنابر الرأي، والمدارس، والجامعات، من صنائع الفكر الجاهلي ودعاة الإلحاد. )نصب رجال، وإعداد رجال، ليخوضوا معركة البناء والتطهير ويقودوها. )تحويل الرأي العام، وتبليغ كلمة الحق، وتوطيد المفاهيم الإسلامية، وتحقيق هذه المبادئ في برامج صالحة للتنفيذ وتنفذ بالفعل).[10]
جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جهاد تتعاون فيه المسلمة مع غيرها في إطار جماعي ولا يكون الأمر فرديا توخيا للحذر وتجنبا للفتنة وهذا يقتضي البحث عن الطرق السليمة للقيام بهذا الواجب الشرعي المعطل فيلزمها الانخراط في جماعة مجاهدة داعية آمرة ناعية بإذن الله. قال الله تبارك وتعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. [11] و في الحديث: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.[12]
وعلى المسلمة أن تتجند إلى جانب أخواتها وإخوانها المجاهدين الصابرين لإزالة المنكر الأكبر وهو الحكم الجبري الذي يلاحق شره ومنكره الشديد كل المجالات ويجهز على كل القيم والأخلاق العالية.يقول الإمام رحمه الله: لا يمكن أن ننتظر من الأفراد، ولا الجمعيات، أن تقوم بواجبها في الأمر والنهي، ولا أن يكون لذلك معنى، ما دام روح المنكر وجسده، وينبوعه، ولحمته وسداه بيننا، ألا وهو الحكم الفاجر الكافر). [13]
جهاد الكلمة والحجة
وهذا مرتبط بكفاءات تتدرب وتتأهل لذلك، لأن العصر الذي نعيش فيه ينبني على الخطاب الفكري والعقلي، والقدرة على الحجاج لتبليغ الكلمة عمل قام به الأنبياء وأولى له الإسلام عناية كبيرة. ودور المسلمة كبير في اختراق المنابر واكتساح الفضاءات لتبليغ كلمة الله يقول الإمام – رحمه الله – : بحاجة نحن لخطاب يبلغ الأسماع، ويخرق أسوار الحصار الإعلامي ضد الإسلام، ويقارع كتائب الغزو الفكري). [14]
جهاد التعبئة والبناء
تضطلع المسلمة بدور هام في هذا الباب الجليل، لما تمتلكه من قدرات وما تكتسبه من كفاءات وهي والحمد لله لديها كثيرة، وقد تبلغ بذلك ما لا يبلغه الرجال، لأنها على ثغر من ثغور المسلمين تحتاط المسلمة أن يؤتى المسلمون من قبلها كما جاء في الأثر أنت على ثغرة من ثغور المسلمين، فلا يؤتين المسلمون من قبلك!). يقول الإمام – رحمه الله -: هذا أثر يستحق أن يتخذ شعارا لجهاد التعبئة والبناء). [15] فتنتظم المسلمة في جند الله الذي يجب عليه حسب توجيهات الإمام – رحمه الله – أن يبث نور الإيمان في القلوب، ونور العلم في الأذهان، وقوة الإرادة في العزائم، وشدة المراس وطول النفس في النفوس. يجب أن يدربوا المهارات، ويروضوا الجسوم، ويقووا العضلات، لحمل سلاح المقاومة، ومعول الهدم، وآلة الإنتاج والبناء). [16]
وهناك أبواب أخرى من الجهاد مثل جهاد النموذج الناجح والجهاد السياسي وجهاد الكفر وجهاد التوحيد، وهذه الأبواب تفترض عملا جماعيا متماسكا وتحتاج إلى جهود وجهود.
ويختم الإمام – رحمه الله – الخصال العشر بخصلة الجهاد وشعبها: الخصلة العاشرة: الجهاد: المنهاج فهم وعلم وطريق يؤدي بالمؤمن إلى نيل الدرجات العلى عند اللّه عز وجل بالجهاد والاستشهاد، بعد جهاد النفس وجهاد وسط الأمة. والمنهاج النبوي طريق حزب اللّه لإقامة دولة الإسلام على طريق الجهاد، وبالجهاد.شعبة الخصلة: 72 الحج والعمرة. 73 الجهاد في سبيل اللّه عز وجل. 74 التأسي برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبأصحابه في الجهاد. 75 الخلافة والإمارة.76 المبايعة والطاعة.77 الدعوة الدائمة إلى اللّه عز وجل). [17]
[1] سورة المزمل: 1 – 8.
[2] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 376.
[3] رواه البيهقي.
[4] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 370.
[5] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 370.
[6] سورة التوبة: 111.
[7] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 384.
[8] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 388.
[9] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 389.
[10] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 394.
[11] سورة الحج: 41.
[12] رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 397.
[14] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 400.
[15] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 409.
[16] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 409.
[17] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 84- 85.