الغَيبُ المُغيَّبُ

أول خطوة يخطوها المسلم عند ولوجه باب الإيمان “الإيمان بالغيب” إذ هو أول صفات المتقين: ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يومنون بالغيب…. عمود من عماد الدين يأتي في هذه الآية قبل الصلاة، وإن كانت الصلاة ركنٌ من أركان الإسلام، مدخلُ الدينِ كله. الصلاة أحد أعضاء جسد العبادة والإيمان بالغيب روحٌ تغشى الصلاة وغيرَها من العبادات لتُخرجها من قُحولتها. فما السبيل لاشتعال فتيل الإيمان بالغيب؟ وما بال النصوص لا تشفي غليل السؤال عن الغيب؟!
كان مفهوم الدين وصلبه أن يرتقي العبد في معرفته وصلته بربه، ولا تحتل المعارف التي يُحصِّلها إلا مرتبةَ الأداة لبلوغ الغاية العظمى، إلى أن تصدَّع جسمُ الإسلام بالفتنة الكبرى، فانزوت الروح في ثوب الصوفية لتَسلَم من بطش الحاكم وتحفظ لنا جوهر ما تُكتسَبُ العلومُ من أجله: السلوك إلى الله، رغم ما شاب بعض فئاتها من غلو أو زيغ.
أصبح حُكمُ الوراثة وخادمُه إسلام الكلام والجدال الصورةَ الرسميةَ السائدةَ عند غالب المسلمين عن دينهم وحاكمهم، وضاق الخناق على مدرسة معرفة الله والسلوك إليه حتى انحصر مجالُ تأثيرها وحيويتها على قِلَّةٍ يَلزَمُها تركُ انشغالات الدنيا كاملة ليُفتحَ لها باب الولوج. عَقبةٌ قَلَّ مَن يتجاوزها بعد توفيق الله أن يتجرد المُوفَّقُ مما سوى الجلوس بين يدي من يُربِّيه ليظفر بالكنز المفقود.
خاصَّةٌ يسلكون إلى ربهم بانقطاع عن كل هموم العيش والسعي على العيال، وعامة لم يبق لهم من دينهم غير الْتِهام محتويات الكتب واحتراف المناظرات، فإذا بجيل ينشأ ومعاني ولادة القلب وذكر الله ولزومه غريبةٌ عنه، بل قد يفني المرء عمره لتأصيل كلمة “ورد” وفاته لب الأمر: كلمة يرددها تحيي قلبه.
تستعيد الأمة انجماعَ ما تشتَّتَ بخروج النور المكنوز قرونا إلى العامة واسترجاع العلم مكانةَ خدمة العمل لبلوغ غاية معرفة الله فتتوحد الجهود ويجتمع الشمل الكفيل بسحق ظلم الحاكم و علاج ضُرِّ الوراثة الذي أجهز على الشورى.
الغيب سِرُّ قوةٍ كانت وراء انتصارات علمية وعسكرية كبيرة عبر التاريخ، يغزو قلوبا آمنت وجالست المؤمنين وصبرت وصابرت حتى أراها المولى من نفسها عجبا: تغيير فرادى وجماعات يفيض بالخير والبركة على المتضرعين ليلا الساعين للعدل بين الناس نهارا.
الغيب حبل واصل بين العبد وربه يتجاوز أثره الأنس والشوق والتبتل بين يدي المولى بل أستغفر الله يضفي من ليالي الأنس والشوق والتبتل على نهار العباد لينقذهم من ظلام ظلم استشرى بخروج الحكم عن سنة الله في تحقيق العدل.
لمن استعصى عليه “فهم” الغيب اللجوء بحرقة صدقه إلى خالق الغيب توسُّلا وصحبة الموقنين الذين اتخذوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نبراسا “تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن فإني أتعلمه…”.