ذكرى الإمام وفاء يتجدد ومشروع يتمدّد

أ- معاني الوفاء وأبعاده
الوفاء إتمام للعهد، وإكمال لشرط متفق عليه، وبلوغ التمام في تنفيذ كل ما عاهد عليه العبد الله والعباد، الوفاء صدق وعدل كما قال الراغب الاصفهاني، ومن أصدق الناس وفاء وعدلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بوفاءه لأمنا خديجة حية وميتة، والذي لم يثنه أمر عن ذكراها وحفظ فضلها وإكرام صويحباتها، يخلع رداءه الشريف لهن ليجلسن عليه قائلا لمن حوله : بأبي هو وأمي إنهن صويحبات خديجة، ويذكر فضائلها فيحرك غيرة أمنا عائشة رضي الله عنها فتثير غضبه صلى الله عليه وسلم وينتصر لها.
الوفاء عربون محبة صادقة أولا، واعتراف بالفضل، واستمرار على ما انجمعت عليه القلوب، دون ملل أو كلل أو انتهاء في زمن.
وذكرى الوفاء للأستاذ عبد السلام ياسين ليست إحياء لسيرة شخص انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، كان يلتف حوله أناس أحبوه وتربّوا على يديه فقط، وجعلوا من وفاته ذكرى تقديرا وتعظيما ووفاء لما قدّم لهم، من باب الواجب والحنين، لا بل هي ذكرى رجل مجدّد في قرنه على منهاج النبوة، ترك تاريخا زاخرا للأمة ليُعمل به ولا يُترك مهملا على الرفوف لأصحاب التّرف الفكري، وقد جرى في سنة الله تعالى أن المعاصرة حجاب تحجب القوم عن فضل وخير أئمة الأمة المجدّدين، فمنهم من لم يُقرأ له ولم يُسمع له إلا بعد قرون من الزّمن وعلى رأسهم الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، شيخ أهل المقاصد الذي حُرم النّاس الاستفادة من تأصيلاته المقاصدية ومنهجه الأصولي المتفرّد الذي جمع في تحريراته العلمية بين الكليات والجزئيات والقطعيات الظّنيات، ولم يكتب لهذا الزّخم المعرفي والتدقيق النظري أن يرى النّور إلا بعد وفاته بستّ قرون، لكن الله يرفع هذه الغشاوة على عين من يطلب الحقيقة، نسأل الله أن نكون استثناء في عصرنا فنحسن استثمار رؤيته التجديدية الشاملة بالفهم السليم والتنزيل والتطوير، خاصة وأنه كان حريصا أن لا يُجعل فكره وثنا.
هي ذكرى وفاء للأمة، نبلّغها ما به تحيى دماؤها وتتجدّد فيها سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاعتراف بفضل أهل الفضل لابد، هي مشروع يتمدّد في الزمان والمكان، كلّما توغّلنا في سطوره، وتأمّلنا في ثناياه، على جميع مستويات مجالات البشرية وضوابطها، لتحقيق المجتمع الإنساني الفاضل في قبول تامّ للتّنوع والاختلاف على أساس توافقي تكون فيه القيم الإنسانية الوحدة الجامعة، والبعد الأخرويّ جوهر الأمر كله ومقصده لمن يروم الفوز في الدارين، في إطار صحبة محبّة موصولة بالنبع النبوي لتحيي القلوب بأنواره الشريفة صلى الله عليه وسلم، ويحيا في قلوبنا حبّه كما حيي في قلوب الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم.
ومن الوفاء للأمة التجديد في قضية المرأة التي نالت حظّا وافرا من كتابات الإمام ومقالاته، رفقا ورحمة ولينا وتعليما وتعلما وتحريرا لها بما به تحيى الأمة، اعتبرها جوهرا في التغيير إن لم يستقم أمرها وترفع عنها المظلومية بأشكالها لن يستقيم أمر البشرية، والمنارة والتنوير من منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقويم شأنها وإعلاءه، والذي تجلت آثاره في تخريج جيل صحابيات عالمات مجاهدات مربّيات قانتات فاعلات، تقوّى وازدهر بهنّ مجتمعهن واستقرّت أوضاعه.
ب- إضاءات تجديدية في مشروع الإمام
من الملامح الكبرى للمشروع التجديدي للإمام رحمه الله:
1) التربية: لتحرير الإنسانية من واقع الفتنة والغثائية وإدراك الرسالة الوجودية وإحياء الفطرة المنسجمة أصلا مع الطبيعة البشرية، مستنيرين في ذلك بالهدي الإلهي والتعليم النبوي، تربية منطلقها ومنتهاها القرآن معجزة الله لعباده أجمعين، تربية على مستوى الفرد والجماعة، ويعتبرها الأستاذ عبد السلام ياسين قضية جوهرية في التغيير لتنمية الإنسان وتخليصه من كل ما يشوبه من سمات خلقية لا تخدم الإنسانية، وهدا منهج نبوي شريف.
2) العلم: باعتبار العلم وطلبه والتوغّل فيه أول باب من أبواب التغيير، فقد كانت همة الاستاذ عبد السلام ياسين عالية في طلبه والاجتهاد فيه تنظيرا وفعلا، معتبرا أنه إن لم يكن للعالم رسالة علمية فلا نَفَعَ ولا انْتَفَعَ، ولا يقتصر العلم المطلوب على العلوم الدينية فقط، بل وجب الإبحار في العلوم الكونية والقضايا الفكرية الفلسفية وقضايا اللغة والأدب والفن والسياسة والعلوم الإنسانية وغيرها، والتجديد فيها لبناء علمي فكري للأمة متكامل يجمع ما تشتّت في الأذهان عبر القرون، وهذا هو الجهاد المطلوب في زمننا كما يقول رحمه الله ويوصي.
3) الاجتهاد: لأن منطق التغيير يستدعي التأمل في المسار التاريخي للعقل المسلم وتطوّره وتحليله لتشخيص مكامن الخلل، للاجتهاد في قضايا العصر بما يوافق الأصل والمنطلق الإسلامي ويخدم الواقع بتحدياته واختلافاته، اجتهادا نابعا من تحرر تام من القيود الذاتية والخارجية الظالمة، إذ أن العقل البشريّ يستمد طاقته وعطاءه من خلال تحرره، اجتهادا غير مقيّد بمصالح أفراد وفئات معينة، إنما يخدم الإنسانية جمعاء في جميع أبعادها ومجالاتها، ويشير رحمه الله إلى أن الاجتهاد مسار لايتوقّف.
4) المرأة: حضيت قضية المرأة في كتابات الإمام بنصيب وافر من الاهتمام، بل راهن رحمه الله على رفع الظلم عنها على جميع المستويات لتحقق التغيير المنشود قائلا: ” يجب إعادة حق المرأة المغصوب كما حده شرع الله وحمايتها من العدوان، ومن جملة العدوان وأشنعه العدوان على كرامتها باسم الحرية، يجب أن تحرر المرأة من العجز والتبعيّة الاقتصادية فيعطاها حق النفقة زوجة وأما ويعطاها حق المتاع مطلقة، وأجرة كريمة عاملة، أن تهيأ لها ظروف الاستقرار في بيتها، لأن عليه يتوقف استقرار المجتمع والدولة” .
5) المحبة: علما أن تجديده تميز بالشمولية والتنوع من المسألة التربوية والتعليمية إلى الفقه إلى قضية المرأة إلى الفن إلى القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية، فقد ارتكز على أساس متين ألا وهو المحبة للذات الإنسانية والبشرية خصوصا ولخلق الله تعالى عموما، باعتبارها أسمى القيم الإنسانية وأساسها، نابذا بذلك جميع أشكال العنف وأنواعه لكونه لا يأتي بالنفع مطلقا، فقد ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على أساس الرفق والمحبة والرحمة حتى عند إقامة الحدود، محبة تستجلب محبة الخالق سبحانه وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنمّ عن الرحمة للخلق عامة، فلا يجور ولا يظلم، محبّة جامعة تؤسّس للعمران الأخوي.
6) الجهاد: يبدأ عند الإمام عبد السلام ياسين باقتحام عقبات النفس، والعمل على تنوير العقول والقلوب بالرفق والرحمة، دون عنف لأنه ديدن النفوس المريضة ونتاج الفهم السطحي، يقول رحمه الله: “نعوذ بالله من خصلة العنف وهي ملمح من ملامح الجاهلية، ولازمة من لوازمها، ومعنى من معانيها… العنف يأتي من سوء الطبع العنيف كما يأتي من سوء الفهم للواقع” ، يتحدث رحمه الله عن جهاد كلمة الحق والحجة وجهاد التعبئة والبناء، “جهاد عملي يعبّئ قوى الأمة لتتقدم متوكلة على الله، معتمدة على عونه، لتشق طريقها في الأرض نحو الكفاية والقوة، ولتحمل رسالة الله إلى الإنسان” ، والصدع بكلمة الحق بكل جرأة ويقين، وقد قدّم من نفسه القدوة والمثال، حيث ظل طيلة حياته ثابتا لم تزحزحه الخطوب والمكائد عن مبادئه، رغم سنوات الاعتقال والحصار ومحنة الأهل والأبناء، و ستبقى نصائحه المدوية للملوك خالدة في التاريخ، شاهدة على سيرة مجاهد أحيى بثباته معاني الجهاد الحق في الأمة.
خاتمة
عرف مشروع الإمام تكاملا فريدا من نوعه في الرؤية، وتوازنا دقيقا في طرح القضايا بعمقها وفي شتى المجالات، متمثلا كل مانظّر له في حياته ليكون علمه علم خطوة لا علم خطبة، إنه اجتهاد يتطلب اجتهادا في القراءة والتحليل والتفصيل والتفعيل الواقعي بإعمال الفكر والعقل، وتحرّر الإرادة في التغيير لأنها المنطلق والمحرك نحو المستقبل المنشود للأمة، وقلب محبّ لهذه الأمة، والمرجع القرآن الكريم بفهم سوي سليم.