دة. الدويب: السلوك الجهادي للإمام المجدد على المستويين العلمي والعملي

إن الحديث عن ثمار تجربة الإمام رحمه الله وآثارها في بث معاني ” السلوك الجهادي” على المستوى العملي والعلمي يجرنا قسرا للكلام عن صاحب مشروع هذا “السلوك” الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله؛ الولي العارف بالله، الإمام المجدد لهذه الأمة دينها، سليل السلسلة النورانية النبوية الشريفة الغراء نسبا وعلما وعملا، رجل محسن من الذين إذا ذكروا ورؤوا ذكر الله عزوجل ، يخطف أبصار قلوب من عرفه أوجالسه فيرتبط بقلبه المغناطيسي الجامع. كان رحمه الله إذا تحدث أو كتب أنطق العقول وأجاد وأفصح؛ يختار من أطايب الكلام ما هو مؤصل بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ينتقي من جميل النثر ولذيذ الشعر ما يسحر ويأسر الأفئدة، يربي ويعظ ويوصي ويحنو. معاني راقية تصل بالله عز وجل وتبشر برحمته وبنبيه المصطفى عليه السلام ومحبته، وبهم الأمة والدعوة في سبيل الله، وبالآخرة والشوق إليها. إنها أيها السادة الأكارم صحبة العارف بالله في جماعة المؤمنين.
إذن هي: صحبة وجماعة وسلوك، فكيف هو هذا السلوك؟ هل هو سلوك التبرك والتهمم بالخلاص الفردي ومن بعدي الطوفان؟ أم هو أمر آخر؟
إن السلوك الذي تبناه الإمام لم يقتصر فقط على الانزواء في الزاوية وإنما أخرجها من حيطانها إلى رحابة الأمة؛ سلوك قرآني جهادي على منهاج النبوة الشريفة “الذي يكون فيه الدعاة صابرين مع الذين يدعون ربهم كما أُمر رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويكون فيه المسلمون صابرين على مخالطة بعضهم” .
فمن ثمرات السلوك الجهادي عند الإمام رحمه الله بناء الشخصية المؤمنة الجامعة وفق النموذج الصحابي والتربية على الخصال العشر وبناء الجماعة المؤمنة المقتحمة لعالم الأنفس والآفاق وذلك بربط الصحبة بالجهاد والعدل بالإحسان والخلاص الفردي بالجماعي. فكيف ذلك؟
1- تأسيس “أسرة الجماعة”
ثمرة أينعت واستوت بإذن ربها حتى أخذت لب الناظرين رغم المنع والتضييق والاعتقال والسجن والحصار تكوين جماعة إسلامية من أكبر التنظيمات محليا ودوليا وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس ونحن من الشاكرين لنعمائه وآلائه، حيث “اتخذت منذ نشأتها أسماء متعددة من أسرة الجماعة إلى جمعية الجماعة فالجماعة الخيرية لتعرف فيما بعد باسم العدل والإحسان .
حاول توحيد العمل الإسلامي على كلمة واحدة وتصور جامع، لكن الأمر لم يفلح وباء بالفشل. فانتقل نزولا إلى أرض العمل المنظم وتأسيس “أسرة الجماعة”. الإسم الذي يشير للمحبة ومعانيها والتعاون ومقتضياته عنده، نوى به الانتساب للجماعة القطرية المرجوة. طموح سامق لا يطمح إليه إلا ذوي الهمم العالية التي عانقت الثريا، ونظرت للمستقبل بفراسة ثاقبة. هذا العمل المنظم اقتضى منه إعداد رجال الدعوة والدولة المؤمنين الشاهدين بالقسط وتربيتهم تربية إيمانية ترسخ بها الأقدام في طريق السلوك إلى الله.عبر تثبيت الجلسات التربوية الأسبوعية، والرباطات الدورية المخصصة للعبادة والتزود بالعلم وتقوى الله عزو جل. لحمل هم الدعوة إلى الله والسير قدما بالمشروع. فكيف السبيل لتحقيقه؟
2- اكتشاف وصياغة المنهاج النبوي
يعتبر مشروع المنهاج النبوي من أهم ثمرات السلوك الجهادي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، حيث جعل التنظير المكتوب يسبق العمل الميداني المنظم، وهذا إنما يدل على وضوح رؤيا الرجل ونضج مشروعه واستوائه بعد جهود مضنية لسنوات كثيرة بدءا بالزاوية انتهاءا بالحركات الإسلامية والنخب. إن المسلمين بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي نٌدبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط”. «المنهاج ما جاءت به السنة»، وهو تطبيق للقرآن وتحكيم له: الحكم بالشورى والعدل والإحسان، بها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وبها أمرنا معهم، وخصصت أجيالنا الصالحة إن شاء الله ببشرى الخلافة الثانية على منهاج النبوة. ربط بين السلوك إلى الله عز وجل وبين المنهاج ارتباطا وثيقا لا يحيد عنه، وأجمله: في اقتحام عقبة عظيمة وجليلة هي العقبة إلى الله تعالى. ينبغي أن تقتحم على بصيرة وهدى من غير تخبط وعشوائية مصداقا لقوله تعالى مخاطبا حبيبه المصطفى عليه السلام: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي هذا الاقتحام السني يقتضي علامات وصوى حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان الذي رواه الشيخان في صحيحيهما. وأجملها المنهاج النبوي في عشر خصال وهي: الصحبة والجماعة، الذكر، الصدق البذل، العلم، العمل،السمت، التؤدة، الاقتصاد، ثم الجهاد. وبدون الصحبة الجماعية الجهادية لن تكون معالم المنهاج النبوي مكتملة.
3- ثنائية العدل والإحسان في سلوك الإمام رحمه الله
اختار لهذه الجماعة اسم “العدل والإحسان” بعدما كانت “أسرة الجماعة”، اقتبسه من الآية التسعين من سورة النحل، يقول فيها ربنا سبحانه : إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. اسم جامع لسلوكين عظيمين صعبين؛ الإحسان باعتباره سلوك فردي إيماني والعدل سلوك جماعي جهادي. وهذا والله لأمر جلل استعصى على العديد ممن حاولوا لم شعثهما وفشلوا على مر تاريخ قرون الانكسار التاريخي. رد النصاب للكفتين ليستقيم ميزانهما الذي اختل بسبب ما وقع للأمة بعدما افترق السلطان عن القرآن. هرب السادة الصوفية بالإحسان خوفا على ضياعه إلى الزوايا ليكون همهم في الخلاص الفردي مع تغييب شبه تام للتهمم بأمر الأمة وخلاصها مما أصابها من تشردم وبؤس وفقر وفي مقابل ذلك نجد البعض اليسير ممن نادوا بالعدل الاجتماعي وطرحوه في الدفاع عن الطبقة المهمشة الهامشية.
أحيى السلوك المنهاجي النبوي الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وصحابته الكرام، الذين كانوا يتهممون بالهم الفردي والهم الجماعي للأمة الإسلامية، رهبان بالليل؛ قائمون بين يدي الكريم متبئسون، مستغفرون بالأسحار، تالون لكتابه، مهتبلون بذكره. فرسان بالنهار لا يخشون إلا الله عزو جل، يرابطون بين الصلاة والصلاة، يحرصون على الفرائض و النوافل وسائر أنواع العبادات، يغنمون الدقائق والثواني الثمينة في صحبتهم لخير الخلق سيدنا محمد عليه السلام، لكن، إذا نادى المنادي حي على الجهاد وجدتهم يسرعون لتلبية النداء يعشقون الموت ويفرحون باللقاء فداء لنشردين الله تعالى والظفر بنصرة الأمة الإسلامية.
لم يكتف رحمه الله اتخاذ هاتين القضيتين شعارا له ولجماعته، بل ضمنها وصيته الأخيرة قبل موته رحمه الله ويؤكد عليهما:” وأوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا، فلا يلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لبلوغ مراتب الإحسان“. لقد أظهر من نفسه عناية تامة بالطفل الصغير والعجوز الكبير، واعتنى بالمرأة المومنة عناية قل مثيلها، حثها على أن تجاهد مع أخيها الرجل وتشد من أزره وتحفظ أمانة الفطرة التي استخلفها الله عليها وتعتني بأسرتها وترعاها، تخدم المومنين وتشد من أزرهم، وجهها لطلب الكمال القلبي والإيماني والخلقي والعلمي فتكون قدمها على خطى الصحابيات الجليلات اللواتي بدورهن جمعن بين السلوك الإحساني والجهادي في صحبتهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة دعوته.
ختاما لا يسعني إلا أن أقر بأن الإحاطة بجميع ثمار “السلوك الجهادي” عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى؛ حديث ذو شجون، لا يكفينا أن نقيم فيها ندوة أو نؤلف فيها كتابا أو أكثر، فهي تحتاج منا المزيد من البحث والتدقيق.