المسلمة والخصال العشر«الخصلة التاسعة: الاقتصاد»

للمسلمة كبير الأثر وجليل الفعل في بناء الاقتصاد باعتباره أساس العدل وركيزته، والعدل مدخل عام من مداخل الدعوة وأصل أول هام من الدين، وتضطلع المسلمة بهذا الدور بما حباها الله من قدرة على لطيف التصرف وحسن التدبير، فتحتم من هذا المنطلق أن تكون مساهمتها في تأسيس العمران الأخوي رافعة للتنمية والأخوة والمحبة والتعاون.
والقصد استقامة الطريق، يقال قصدت قصده أي نحوت نحوه، ومنه الاقتصاد. ويقال أقصد السهم أصاب. وفي معنى القصد التوجه والسير إلى الله، وهذا يتطلب توسطا وتريثا وتدبيرا للمعيشة وترتيبا للحال والظروف المحيطة للوصول إلى الجهاد ونيل رضى الله تعالى. فهذه الخصلة التاسعة تقيم الوزن، وتلفت إلى القصد ليعلم المؤمن وجماعة المؤمنين بالتذكير بالله وفريضة الجهاد في سبيله أن المؤمن وجماعة المؤمنين ركب قاصدون إلى غاية، ما تنبغي لهم الراحة الموهنة، وما خلقوا لها). [1]
وقد دعا الله تعالى إلى عدم الإسراف في الإنفاق، لغاية تربوية توجه سلوك المسلم والمسلمة للتعامل مع المال والوقت والجهد، وتربط هذا السلوك بالتعود على ترشيد هذه الموارد والمحافظة عليها إذ الاقتصاد في معناه التوسط في الإنفاق وحسن التدبير للأمور كلها، وهو بذلك تصرف متزن يضمن الاستمرار والحفاظ على الموارد والطاقات. قال تعالى: يا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. [2] وجعل سبحانه وتعالى التبذير من عمل الشيطان، قال تعالى: إن المبذيرين كانوا إخوان الشياطين. [3]
وقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة نماذج في الاقتصاد تشع نورا وتمتلئ بالعبر لمن أراد أن يدفع كل أسباب البؤس والفقر والتخلف والانهزام، بالتركيز على الاقتصاد وجعل تدبير الشأن الخاص والعام مرتكزا عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “الاقتصاد نصف المعيشة”.[4] وقال صلى الله عليه وسلم : “من فقه الرجل قصده في معيشته”.[5]
وتظهر قيمة الاقتصاد في حياة الناس أنه ضمان للحياة السعيدة المليئة بالاستقرار والعطاء والغنى إذ القناعة بالقليل تنحدر من التعود على الاقتصاد في الأمر كله، ومن هنا كان المقتصد أغنى الناس وأقدرهم على التحكم في شهواته ونزواته وثرواته. كما أن الاقتصاد إسهام في إمداد المجتمع بكل أسباب العيش الكريم المنفلت من ضغوط الحاجة بعد التطهر من حب الدنيا ومتاعها الزائل وهذا يحتاج من المسلم والمسلمة إلى تربية مستمرة على التقلل والإنفاق تمثلا للنموذج النبوي الشريف.
وجعل الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله – الاقتصاد في الخصلة التاسعة وبين أنها تقوم على جانبين تربوي وتنظيمي مثل باقي الخصال، وربط بينها وبين تحقيق مبدأ العدل برباط وثيق إذ لا عدل يقوم في الأرض إلا بالقدرة على التحكم في الاقتصاد وتصريف الأموال من منطلق شرعي، كما حددت ذلك كثير من الآيات والأحاديث النبوية.
1 – الاقتصاد طريق العدل
الإسلام دعوة جامعة لكل معاني الخير والبر والهدى، وقد تأسست مبادئه واحكامه على شقين ضروريين هما العدل والإحسان، فالعدل يرتبط بالحكم والقضاء وقسمة الأرزاق، وهذا الجزء الأخير لا يتحقق إلا بالتدرب على الاقتصاد وحسن سياسة الأموال و تقسيم الأرزاق بين العباد. ولأهمية هذا الموضوع يرى الإمام – رحمه الله – أنه : لا يكفي أن نؤكد أن الإسلام هو العدل، وهو الحضارة، بل لا بد أن نشرح أن بين الطرفين الذميمين في حياتنا، طرفي الفقر والترف، تتمثل الجادة، يتمثل الصراط المستقيم اجتماعيا واقتصاديا، المؤدي بالأمة إلى أهدافها، وبالفرد إلى غايته. ولا بد أن نخطط للقضاء على ما يخالف الاقتصاد، بالمعنى القرآني، بإقامة اقتصاد، بمعنى العصر، عادل قوي).[6]
ومن تم يكون للاقتصاد دور في تمكين العدل في الأرض، وهذا يبدأ حتما من اقتحام عقبة النفس لتسود الرحمة والعطاء والإنفاق بدل القسوة والشح والأنانية:“قال الله عز وجل يخاطب الإنسان:) فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة.[7] جوع وطعام، ونداء للإنسان أن يرتقي من حضيض أنانيته بالعطاء ورحمة المقهور. وهو ضمنيا واستنباطا نداء للأمة المسلمة أن تقتحم عقبة الاقتصاد ليؤتى حقه كل ذي حق، وليسود الرخاء فتسود معه الأخوة والإيمان). [8]
2 – الاقتصاد ومسؤولية المسلمة
تتحدد مسؤولية المسلمة في امتلاك رؤية استراتيجية متبصرة تضع في الاعتبار مجموع التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية في ظل عالم متغير يعتبر الاقتصاد مقوما من مقومات السيطرة والتحكم في كل مناحي الحياة، ومن هنا تكون مسؤولية المسلمة متعددة الواجهات على نحو يقوي الأمة ويعطيها أسباب القوة والمنعة والقدرة على المواجهة والسيادة لتبليغ دعوة الله في الأرض، فالعالم المادي لا يؤمن إلا بالقوة المادية ومنها توطيد معالم الاقتصاد فكان من مسؤوليتها:
– تربية الإنسان لكي تكون كثرته عملا إيجابيا مؤثرا وليس كمّا غثائيا لا أثر له في الحياة، وتدخل روحا جديدة في هذه الأجيال التي تكون تحت الفساد الجبري عبئا لا يطاق، لأنها تمثل في نفسيتها، وذهنيتها، وموقفها أمام الحياة، الفشل والانهزام ومسخ الشخصية.لأن: ما أصاب النفسية الإنسانية من خراب معنوي شامل بتخريب الجاهلية يتجسد في أجيالنا الضحية. أجيال تولد كالأرانب في حظائر البؤس الاجتماعي، وتعطاها أسماء وأرقام في مدارس التجهيل وشوارع الفتنة، وتعرض للقنبلة الإعلامية، والإغراء الانحلالي، ثم تدفع إلى الشارع. لا تخطيط يهيئ الإنسان لمهمات الخبرة، ولا تربية تنشئه على معاني الإيمان، ولا تنظيما اقتصاديا يضعه على عتبة المسؤولية الإنتاجية والكرامة الاجتماعية).[9]
– ومن صميم التربية في ظل مجتمع التغيير أن توازن المسلمة بين نوعين من المسؤوليات: مسؤولية المشاركة في الحياة العامة العملية، ومسؤولية الحفظ على سمتها وأمومتها: وللمرأة مكانها تحت دولة القـرآن في وظائف التعليم بمراحله لبنات جنسها، والتطبيب لهن، وسائر الأنشطة الاجتماعية، وغيرها مما لا يتنافى مع الحشمة والأخلاق والعفة والتقوى. لكن أن تَملأ النساءُ دواوين الحكومة مختلطاتٍ بالرجال، متبرجات مختليات بالرئيس والمرؤوس، عاقدات المواعيد التطبيقية لما يشاهد في الأفلام الخَلاعية! هذا منكر. وأن يترك الأطفال للخادمة ولمراكز الحضانة تُطعمهن الأيدي الأجيرة طعام الحرمان العاطفي! هذا ضياع لأجيال نريدُها مُفعَمةَ الجسم بفتوة لا تنشأ إلا بثدي الأمهات، عامرة القلب بإيمان فطري لا تتأهل للحفاظ عليه وتأسيسه إلا رحمة الأمهات، متوثبة الهِمة إلى معالي العزة بالله والعزة للأمة، عزةٍ لا يمكن أن تتولد في أحضان الخادمة ومراكز الحضانة وشارع البؤس). [10]
– ومن ذلك إعداد القوة: قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل. [11] وبهذا تتحقق الغلبة والانتصار والتمكين والكرامة الإنسانية يقول الإمام رحمه الله: لفت نظرنا إلى الأسباب المادية لنتخذ منها وسائل لغايتنا الإحسانية، وأهدافنا الإيمانية لنتجاوز هَمَّ المادة وضروراتها، ونتخذها مصعدا لنرقى إلى تحقيق كرامتنا). [12]
– ومن ذلك أن تلتمس الرزق الحلال من مصادره الحلال ونفقته في الحلال، وهذا أصل من الأصول الثلاثة في تربية المؤمن: السائر إلى الله تعتبر أصولا ثلاثة في علاقته بالمال ومتاع الدنيا: )1- أن يملك الدنيا ولا تملكه. )2- أن يتسبب لكسب معاشه ومعاش عائلته حيث أقامه الله، ويجد لينفع بنشاطه الاقتصادي أمته. )3- أن يكسب من حل وينفق في حل، لا يحتكر ولا يبذر ولا يكنز). [13]
– وأن تولي العناية للمحيط حفاظا على نعم الله، وعلى المواد الخام،
– وأن تتجند لمعركة العلم، لتبدأ عمليات البحث عن مواطن القوة العلمية المساهمة في توطين المعرفة وتغذيتها، وإشاعتها. وأن تساهم بالاقتراح الموجه لتجد حلا لمشاكل التخلف الاقتصادي.
– ومن مسؤوليتها العظمى الحافظية على المال والعرض والنفس وما أعظمها من مسؤولية لقوله تعالى: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله.[14] يقول الإمام رحمه الله موضحا معنى الحافظية: الحفظ استمرار واستقرار هما قطب السكون في الحياة الزوجية وحياة المجتمع. النساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة، وحضن للتربية، ومطعمات، وكاسيات ومدبرات لضرورات معاش الأسرة. هن المحضن لأجسام الأنام، والراعيات لحياتهم، والوصلة الفطرية بين أطراف البشرية، والواسطة بين جيل وجيل).[15] ويؤكد أن حافظيتها إذا لا تقصُر على حفظ حقوق الزوج بل تشمل كل حقوق الله المكلفة بها الزوج. حافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شُغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه).[16]
ويلخص الإمام رحمه الله هذه الخصلة وشعبها في قوله: الخصلة التاسعة: الاقتصاد: الاقتصاد تجديد القصد، ونقد المراحل، والاستفادة من الأخطاء وتوفيق الأعمال الجزئية وتنسيقها. ثم إن الاقتصاد في اللغة والشرع توسط لا يقبل المغالاة ولا “حرق المراحل”. ثم الاقتصاد بمعنى الإنتاج والتوزيع وتنظيم الملكية وما تحمل الكلمة من مدلولات عصرية.شعب الخصلة : 69 حفظ المال.70 الزهد والتقلل.71 الخوف من غرور الدنيا).[17]
[1] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 320 – 321.
[2] سورة الأعراف: 31.
[3] سورة الإسراء: 27.
[4] رواه ابن السني وأبو داود.
[5] رواه أحمد.
[6] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 322.
[7] سورة البلد: 11-16
[8] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 325.
[9] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 329.
[10] ياسين عبد السلام، العدل، ص: 311.
[11] سورة الأنفال: 60.
[12] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 325.
[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 332.
[14] سورة النساء: 34.
[15] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات،2 / 88.
[16] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات،2 / 90.
[17] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 84.