دروس في فقه السنة النبوية المرأة بين القرار في البيت والمشاركة في تعبئة الأمة

تقديم
أسعى من خلال هذه الصفحات الوقوف عند الصحابيات الفاضلات باعتبارهن الجيل الباني ذو الإرادة الجامعة الفاعلة، لنستوحي النموذج الأمثل للفهم السديد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقرأ دروسا تربوية تطبيقية من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولندرأ أحكاما مجردة معممة سطحية مستوحاة من السنة النبوية كانت وليدة عصور التقليد وانحباس الفقه الإسلامي.
وأطمح إلى تصور تجديدي يغترف من حياة الصحابيات لا من فقه سد الذرائع واتقاء الفتنة الذي حشر المسلمة المتمسكة بدينها في ركن حرج مرج، وبتر منها حاسة المسؤولية خارج نطاقها الضيق.
الدرس الأول: أم عطية الأنصارية 1 رضي الله عنها وحديث “خروج النساء للعيدين”
روى الإمام البخاري عن حفصة بنت سيرين” قالت كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف فحدثت عن أختها وكان زوج أختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة وكانت أختي معه في ست قالت: كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى فسألت أختي النبي صلى الله عليه وسلم: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج، قال لتلبسها صاحبتها من جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المسلمين. فلما قدمت أم عطية سألتها أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: بأبي نعم وكانت لا تذكره إلا قالت بأبي سمعته يقول يخرج العواتق وذوات الخدور أو العواتق ذوات الخدور والحيض وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيض المصلى، قالت حفصة فقلت الحيض، فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا وكذا” 2. وبلفظ متقارب عند ابن ماجة عن أم عطية أنها قالت “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا العواتق وذوات الخدور ليشهدن العيد ودعوة المسلمين وليجتنبن الحيض مصلى الناس” 3.
ويقصد “بالعواتق جمع عاتق وهي من بلغت الحلم أو قاربت، أو استحقت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة …وذاوات الخدور وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه “ 4
تداول الفقهاء والمحدثون حديث أم عطية في سياق الاستدلال بالنسبة للنساء على ” استحباب حضور مجامع الخير ودعاء المسلمين وحلق الذكر والعلم ونحو ذلك” 5 كما قال الإمام النووي، غير أنهم اختلفوا في المقصد النبوي من خروج العواتق خاصة، من آرائهم ما يلي:
_ يرى الإمام ابن دقيق العيد أن ” المقصود بذلك بيان المبالغة في الاجتماع وإظهار الشعار، وقد كان ذلك الوقت أهل الإسلام في حيز القلة فاحتيج إلى المبالغة بإخراج العواتق وذوات الخدور” 6
_ وعند الإمام بدر الدين العيني “كان القصد تكثير السواد أثرا فِي إرهاب العدو. ألا ترى أن أكثر الصحابة كيف كانوا يأخذون نساءهم معهم فِي بعض الفتوحات لتكثير السواد؟ بل وقع منهن فِي بعض المواضع نصرة لَهم بقتالهن وتشجيعهن الرجال ” 7
_ يستحب الإمام ابن حجر خروج النساء مؤكدا أن علة الحكم صريحة في الحديث وهي ” شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك” 8، ويعلق على قول حفصة بنت سيرين في منع البنات معللا “وكأنهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج لما حدث بعد العصر الأول من الفساد، ولم تلاحظ الصحابة ذلك بل رأت استمرار الحكم على ما كان عليه في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم” 9.
_ يذهب الإمام النووي إلى ترجيح رأي الشافعية قائلا ” قال أصحابنا يُستحب إِخراج النساء غيرِ ذَوَات الهيئات والمستحسناتِ فِي العيدين دون غيرهن وأجابوا عن إِخْرَاجِ ذوات الْخُدُورِ والمخبَّأَةِ بأن المفسدة فِي ذلك الزمن كانت مأمونة بِخلاف اليوم” 10
علل العلماء خروج النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصرة الدين فاحتيج إلى مؤازرتهن، مع أن الحديث ورد بعد الفتح والمسلمون في قوة وعزة ” بدلالة حديث ابن عباس أنه شهده وهو صغير وكان ذلك بعد فتح مكة ” 11 كما يقول الإمام ابن حجر، وهذا يؤكد أهمية حضور النساء في الشأن العام، لكن بعد ذلك أمسك الناس عواتقهم عن الخروج بعلة فساد أهل الزمان وفرقوا بين ذوات الحسن وغيرها اتقاء للفتنة .
هنا يحق لنا أن نتساءل: وهل تتقى الفتنة ويدرأ الفساد بسجن المرأة وتغييبها عن الأنظار وحرمانها من ارتياد المسجد حيث تتعلم الإيمان والقرآن؟ وهل كانت النساء زمن رسول الله ضيفات ناسكات هامشيات في المسجد أم نزيلات مكرمات متعلمات لهن مشاركة وحضور معه صلى الله عليه وسلم؟
يبدو أن سنة خروج النساء وبخاصة العواتق إلى المسجد ما لبثت أن توارت واندثرت بعد عهد رسول الله وزحف عليها عرف فاسد حبس المرأة باسم عفة وقائية ضامنها القفل، فقامت أم عطية تراجع الناس وتنادي بإحياء سنة رسول الله في خروج النساء للعيد، تصحح ما انحرف من فهم وما انحبس من فقه حين انصاع العلماء لواقع مضطرب سائب فاسد لم يجدوا له صلاحا وتغييرا إلا بمنع البنات من المسجد.
جملة القول في الحديث: إن أم عطية شهدت فساد زمان أدركها فخشيت ضياع السنة النبوية، وصححت المسار وأخبرت بخروج العواتق، لأن تغيير الواقع الفاسد لا يتأتى بتجهيل النساء وتعطيلهن عن المشاركة في الحياة العامة وحبسهن عن المسجد الذي يمثل مركز حياة المسلمين الروحية والاجتماعية والسياسية، المكان الاستراتيجي حيث تعقد العقود مع الله تعالى توبة وعزما صالحا وجهادا، وحيث يذكر الله تعالى ويتلقى العلم بالله وبشريعة الله. وقد استندت في كل ذلك على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يُمْحُ أثر فتن الجاهلية بحبس المرأة وإنما بسيادة الشريعة وإحياء الرقابة الإلهية في النفوس وإشاعة خصال الخير بين الناس.
فضلا عن ذلك للحديث ما يؤازره من جهات أخرى، منها وصيته صلى الله عليه وسلم الغالية ” لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد” 12، إضافة إلى حرصه صلى الله عليه وسلم على تعهد مصلى النساء ووعظهن كما أخبر عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله “يقول قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة “ 13. كان عليه الصلاة والسلام يخصص لهن وقتا كما الرجال، وفي ذلك برهان على تأكيد غشيان النساء للمسجد.
وهذا ما فقهته أم عطية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أخرجهن مؤكدا على العواتق والحيض منهن ليبشرهن بالخير ويكرمهن في يوم البهجة والسرور، وليعلم النساء أنهن ركيزة أساسية في التغيير وفي بناء حاضر الأمة ومستقبلها، وهو ذو القلب الرحيم صاحب الذوق الرفيع عليه أزكى الصلاة والتسليم.
سلام على أم عطية في الخالدين………..
إلى اللقاء مع الدرس الثاني
_________________________________________________________________
[1] – هي نسيبة بنت الحارث، من فقهاء الصحابة لها عدة أحاديث، تعد أم عطية فِي أهل البصرة، وكانت تغزو كثيرًا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تمرض المرضى، وتداوي الجرحى، يعتبر حديثها أصل فِي غسل الميت، وَكَانَ جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت، روى عنها أنس بْن مالك، ومحمد بْن سيرين، وحفصة بنت سيرين. ينظر سير أعلام النبلاء 2/318، والاستيعاب في معرفة الأصحاب 4/1947.
[2] – صحيح البخاري، كتاب العيدين باب إذا لم يكن لهل جلباب في العيد، رقم 937 ، وكتاب الحيض باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى 318، صحيح مسلم كتاب صلاة العيدين باب ذكر إباحة خروج النساء فى العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة، مفارقات للرجال رقم 890.
[3] – ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في خروج النساء في العيدين رقم1308.
[4] – أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري، تحقيق عبد القادر شيبة الحمد، طبع على نفقة الامير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ط الأولى 1421 – 2001،كتاب الحيض باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، 1/ 504-505.
[5] – أبو زكرياء محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط الثانية 1392ه، 6/180.
[6] – أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري القوصي، المعروف بابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، كتاب الصلاة باب العيدين، دار الجيل بيروت 1416/ 1995م، ص 349.
[7] – أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى، عمدة القاري شرح صحيح البخاري 6/303، دار إحياء التراث العربي بيروت.
[8] – أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب العيدين باب اعتزال الحيض المصلى،2/ 454.
[9] – المصدر نفسه، كتاب الحيض باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، 1/504. [10] – أبو زكرياء محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجاج، 6/178.
[11] – فتح الباري شرح صحيح البخاري، 2/454.
[12] – صحيح البخاري ، كتاب الصلاة باب استئذان المرأة زوجا في الخروج إلى المسجد رقم 866.
[13] – صحيح البخاري ،كتاب العيدين بابُ مَوْعِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ العِيدِ رقم935.