الدر المنظم في مولد النبي المعظم

هل الهلال وهلت معه بشائر السعد والفرح والمحبة وتجديد الولاء والانتساب لخير البرية سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ازدهى الكون بأحلى حلة وتزين رونقا وبهاء ونورا، نسمات ندية عبقت جميع أرجائه، أمطار خير روت الأرض حتى ارتوت وتزينت بحلل الخُضرة السَّنية الربيعية، شمس أرسلت خيوطها الذهبية وهي مبتسمة منيرة، ليل أرخى سدوله في حياء واحتشام لتأتي النجوم تتهاوى مضيئة في سمائه، وبرق أومض في الظلماء احتفاء بسيد الكونين والثقلين، واهتبل المؤمنون والصالحون من هذه الأمة بهذه المناسبة العطرة، كل تفنن في اختيار الطريقة المناسبة ليعبر بها عما يخالج قلبه من مشاعر وأحاسيس المحبة الصادقة لمقامه الشريف. فمتى ظهر الاحتفال بذكرى المولد النبوي المعظم في المغرب؟ ومن كان له أجر السابقة في ابتداع هذه البدعة الحسنة؟ ثم ما المظاهر الاحتفالية التي واكبت هذا اليوم الأغر؟
قبل أن أتحدث عن المغاربة فلا بد من إطلالة قصيرة حول العالم الإسلامي في تخليده لهذه المناسبة الجليلة، على العموم يعزى تاريخ هذا الاحتفال في القرنين السادس والسابع حيث ظهر في مصر على عهد الدولة الفاطمية، وفي سنة 579هـ كان يفتح مقام مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة في شهر ربيع الأول وخاصة يوم الاثنين فيدخله الناس عامة، كما كان يوم مولد الحبيب المصطفى عليه السلام يتخذ يوم عطلة بمكة فتفتح فيه أبواب الكعبة المشرفة فيزورها الناس ويفرحوا بها أشد الفرح. أما في المغرب فيقول الدكتور عباس الجراري: “يذكر تاريخنا أن العزفيين في سبتة هم من الذين كانوا سباقين إلى الاحتفال بالمولد. وأبو العباس العزفي (المتوفى سنة 633 هـ) ألف كتاب “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، وأكمله ابنه أبو القاسم العزفي، في مقدمة هذا الكتاب نقرأ أن هؤلاء العزفيين هم أول من دعا إلى الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب وأول من أحدثه”.
ويبين الدكتور محمد المنوني رحمه الله أن الأسباب التي دفعت العزفي الى الدعوة لهذا الاحتفال، تتمثل في حث أهل بلده على ترك بدع الاحتفال بأعياد النصارى وما يأتونه من المناكر والشنائع في أعياد النيروز والمهرجان ومولد عيسى بن مريم، حيث تشبعت ذهنيتهم بالطقوس النصرانية، فباتوا يسرفون في الاستعداد لهذه الاحتفالات وتعظيمها، إذ يبيحون المحرمات ويأتون الفواحش التي نهى عنها الشرع، من وجهة نظر العزفي المتشبع بالذهنية الفقهية، فدفعه هذا إلى أن يفكر فيما يشغل الناس عن هذه البدع، فوقع في نفسه أن ينبه أهل زمنه إلى الاعتناء بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أن نشر دعوته لن تتم إلا عن طريق بثها في ذهنية الأطفال الصغار لأن ذلك أنجح وأنفع على حد قوله، أخذ العزفي يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها مغزى هذا الاحتفال حتى يسري ذلك في آبائهم وأمهاتهم بواسطتهم، كما دعا إلى تعطيل تعليم الصبيان في هذا اليوم. ويؤكد ذلك العزفي بقوله:” ومما فتن الناس فيه السؤال عن مولد عيسى عليه السلام، فكثيراً ما يتساءلون عنه، أو ليس كانوا بميلاد نبيّنا محمد عليه السلام أولى والتهمّم به ومعرفته؟ فكثير منهم لا يعلمون ذلك. ومولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل وتوفى صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم، هذا أولى أن يُسأل عنه ويتهمّم بمعرفته وحفظه لفضله وبركته”.
أما مظاهر وتجليات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب فأجمل بعضها فيما يلي:
1- تنظيف البيوت وتبييض الجدران:
من العادات الحسنة التي دأبت عليها النساء المغربيات في كل المناسبات سواء العائلية أو الدينية وخاصة في ذكرى المولد النبوي قيامهن بما يسمى ب”لَعْوَاشِرْ” أي العمل على تنظيف البيوت وكنسها وغسلها بالماء والصابون ووسائل التطهير، وأيضا تهوية كل أرجاء المنزل و غسلهن للأفرشة والستائر والأواني وغيرها. كما يعاد تبليط المنازل والجدران بالصباغة سواء المائية أو الزيتية، فنجد المدن المغربية نوعت في اختيارها للألوان؛ فمثلا مدن الجنوب اختارت اللون البني المائل إلى الحمرة وهو لون الاستقرار ويمنح الإنسان بعض الهدوء والعودة للطبيعة وللون التراب، أما مدن شمال المغرب ففضلت التبييض باللون الأبيض والأزرق لما لهما من دلالات النقاء والطهر والصفاء والهدوء والسكون. ولإضفاء رونق جمالي على البيوت فإنها تزين بأنواع الغِراس والورود فتوضع في الشرفات و الأبواب.
2- التفنن والتأنق في الطعام واللباس والتوسعة على العيال:
يصف ابن عذاري المراكشي هذا الاحتفال قائلا: “يطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر على أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان عليهم والأنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت، يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام، وفي كل عام من الأعوام”.
كما بين بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن، وصفا دقيقا للاحتفال بالمولد النبوي والمتمثل فيما يلي:
• كان من العادة أن يتم الاستعداد للحفل بأنواع مختلفة من المطاعم والحلويات وأنواع الطيب والبخور، مع إظهار الزينة والتأنق في إعداد المجالس.
• جلوس الحاضرون في مكان الاحتفال حسب مراتبهم في أحسن زي.
• تلاوة القرآن الكريم والصلاة على سيد المرسلين وإنشاد قصائد المديح وتقديم التهاني بليلة المولد.
• اقتسام الفقراء والمعوزين ما فضل من البخور والشموع وغيرها
• جلوس الكتاب لتوزيع الهدايا والكسوة على الأشراف والأعيان، والفقهاء في صباح سابع المولد.
3-احتفال الأطفال في الكتاتيب القرآنية:
يصف الحسن الوزان في كتابه وصف إفريقيا مراسيم هذا الاحتفال قائلا: «ويحتفل هؤلاء الأطفال أيضا بعيد المولد النبوي، ويلزم آبائهم أن يرسلوا شمعة إلى المدرسة فيأتي كل طفل بشمعته، ويحمل بعض الأطفال شمعة تزن ثلاثين رطلا أو أكثر أو أقل، وهي شموع جميلة مزخرفة جدا مزدانة أطرافها بفواكه عديدة من شمع، توقد في مطلع الفجر وتطفأ عند بزوغ الشمس. ومن عادة المعلم أن يدعو بعض المسمعين لينشدوا أمداحا نبوية وينتهي الحفل بمجرد طلوع الشمس، وهذا أحسن مورد لمعلمي المدارس، لأنهم قد يبيعون من الشمع ما قيمته مائة مثقال أو أكثر من ذلك بحسب عدد تلاميذهم، ولا يؤدي أحدهم كراء عن هذه المدارس لأنها أوقاف وصدقات جارية على أرواح الواقفين أما فواكه تلك الشموع وأزهارها فتعطى هدايا للأطفال والمنشدين». وفي هذه السنوات الأخيرة فإننا نشاهد مواكبا للشموع في ليلة المولد تحملها أنامل الأطفال وتكتسي البشاشة والفرح على وجوههم استبشارا بهذه المناسبة العظيمة.
4- نظم الشعر وظهور مجالس للسماع والمديح:
لقد تفنن المغاربة في هذه المناسبة عبر العصور التاريخية التي مر بها المغرب في نظم القصائد الشعرية التي تحتفي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن نغفل الحديث عن البردة أو البرأة للإمام البوصيري رحمه الله، وأيضا الهمزية المشهورة، كما ظهرت قصائد جديدة في المحبة أثْرت خزانة الأدب المغربي، ومن بينها نجد:
1- قصائد المولديات: أو قصائد التهاني المولدية ظهرت في أواسط العصر المريني، فكانت تفتح بالحنين إلى البقاع المقدسة وخاصة الروضة الشريفة، وتتناول الجناب النبوي الشريف وتعداد معجزاته. ومن بين المولديات هناك مولدية محمد بن علي الخطيب العكبري القصري وهذا مطلعها:
تجلى مولـــــد الهادي بإقبــــــــال وإسعـــــــــــــــــــــــــاد
أشهر دمــت من شهر وقد خصـــــــصت بالفخر
وأيضا مولدية ابن غازي محمد بن أحمد العثماني المكناسي وهذا مطلعها:
باسم خــــــــــلاق الأنــام نبتــــدي صـــــدر النظام
ثم نثنـــــــي بالســــــــــــــــــلام عن رســول الله أحـــــــــــمد
2- قصائد النعليات: اهتم كثير من علماء المسلمين بنعال النبي صلى الله عليه وسلم وألفوا في موضوعه، واهتموا بالبحث الدقيق في ذلك شعراً ونثراً. وقد ألف بعضهم رسائل خاصة في هذا الموضوع، ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد المقري في كتابه “فتح المتعال في مدح النعال”، والشيخ أشرف علي التهانوي، من علماء الهند في رسالته “نيل الشفا بنعل المصطفى”، ومن بين شعراء قصائد النعليات يوسف النبهاني الذي قال في مطلع قصيدته:
على رأس هذا الكــــــــون نعــــــــــــــــل محمد علت فجـــــــــــــــــــميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد على القــــــــــــــــــــــرب لم يؤمـــر بخلع نعاله
مثال حـــــــــــــــــــــــــكى نعـــــــــلاَ لأشرف مرسل تمنـــــــــــــــــــت مقام التــــــــــــــــرب منه الفراقد
3- مجالس لغناء شعر الملحون: كان شعراء الملحون وخاصة في العصر المريني يتنافسون في نظم قصائدهم الشعبية المتضمنة للمديح النبوي باللغة العربية أو بالعامية، وفي مدينة فاس كان يجتمع الناس في العطارين ليلقون أشعارهم أمام جمهور غفير ويتنافسون فيما بينهم لاختيار أجمل القصائد ويتوجون صاحبها بأمير الشعراء في تلك السنة، ومن أشهرها قصيدة “الحُرْم يا رسول الله”.
كانت تلك بعض مظاهر احتفال المغاربة بذكرى المولد النبوي الكريم، فالصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول، ألف صلى الله عليك يا باهي الجمال، ألف صلى الله عيك يا قمر الكمال.