إشراك الرسول ﷺ المرأة في أمر الأمة -نموذج السيدة أم سلمه-

قال الإمام القرافي رحمه الله معبرا عن فقه حب رسول صلى الله عليه وسلم الله: “معرفة أحواله صلى الله عليه وسلم واجبٌ من قبيل الاعتقاد، لا مجرد العمل”.
ونحن باستعراضنا لسيرته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه رضي الله عنهن، نسعى لمعرفة أحواله الشريفة، وشمائله اللطيفة، لتتجدد فينا محبته، فتسري خلقا كريما نرقى ونسعد به في الدارين.
لقد حفظت لنا كتب السيرة موقفا جليلا لرسول الله مع زوجه سيدتنا أم سلمه رضي الله عنها في صلح الحديبية، يوضح بجلاء المعاملة الكريمة لنبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم لأزواجه رضي الله عنهن، بهدف أخد العبرة واستلهام القدوة من طبيعة العلاقة الزوجية التي أرست دعائمها السنة النبوية الكريمة، احتفالا منا معشر المؤمنات بعطر مولده الشريف، إجلاء للبس الذي اعترى فهم وتطبيق سنته، بسبب نكاية الاستعمار فينا وما زرعه من بذور الفتنة، ولانحباس فقه عن التلمذة المباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لانكسارات تاريخية مرت بها الأمة الإسلامية.
فماهي أبرز معالم سيرة أم المؤمنين سيدتنا أم سلمه ؟
وما هو الدور التاريخي الذي سجل لها في صلح الحديبية؟
ماهي الحكمة والعبرة التي يمكن أن نستشفها من الواقعة المتمثلة بين أيدينا؟
معالم في سيرة سيدتنا أم سلمه
نعرض معالم سيرة الصحابية الجليلة سيدتنا أم سلمه ،التي أعزها المولى حين رفع مقامها لتصبح أما للمؤمنين، بيمن زواجها من رسول الله ازكى وأطيب الصلاة والتسليم عليه، نعرضها من خلال الميزان العمري الذي أرساه سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في تفضيل الصحابة رضي الله عنهم في العطاء.
سابقتها في الإسلام
هي السيدة الطاهرة هند بنت أبي أمية المخزومية، عرف أبوها بلقب زاد الركب لكفايته زاد من يخرج معه للسفر، وهي ابنة عم سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
تزوجها الصحابي الجليل أبو سلمه عبد الله بن عبد الأسد، وأمه بره بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخوه من الرضاع.
كان سيدنا أبوسلمه وزوجه أم سلمه رضي الله عنهما من أولي السابقة في الإسلام حيث أبليا فيه البلاء الحسن. اشتد عليهما إيذاء المشركين في مكة المكرمة، فأذن لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة لأرض الحبشة مع ثلة من الصحابة.
ثم عادا إلى مكة المكرمة حينما وصلتهما أنباء عن منعة المسلمين، لكن واقع الحال كان غير ذلك، فهاجرا مرة أخرى إلى المدينة المنورة، وأثناء خروجهما تعرضا لمحنة بسبب منع بني مخزوم ابنتهم من السفر مع زوجها.
غناؤها في الإسلام
يشهد التاريخ بالأثر البالغ للصحابيات الجليلات في نصرة الدعوة الإسلامية في مهدها. وسيدتنا أم سلمه من هذا المعدن النفيس، الذي تربى برعاية رحيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شهدت رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وفتح مكة وصحبته في حصار الطائف، وفى غزوة هوازن وثقيف، وكانت معه في حجة الوداع.
وقد أعتقت عبدا مملوكا لها يدعى سفينة، وشرطت عليه إن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قامت السيدة أم سلمه بالاعتكاف في بيتها للعبادة، وكانت تعلم الصحابة الحديث وأحكام الفقه في الدين.
حظها من الله تعالى
عرفت رضي الله عنها بصلاحها وتقواها وكثرة عبادتها، كما عدت من فقهاء ألصحابة، حفظت القرآن الكريم، وكانت لها موافقات كثيرة حيث نزلت آيات من القران الكريم ببركة سؤالها رسول الله عدم ذكر النساء في القرآن، وكانت تفتخر بنزول الوحي في بيتها.
تقدم لها كبار الصحابة لخطبتها، بعد وفاة زوجها فرفضتهم، فتقدم لها رسول الله بإذن من الله تعالى فتزوجها صلى الله عليه وسلم.
توفيت أم المؤمنين في خلافة يزيد بن معاوية، بعدما جاءها خبر مقتل الحسين عليه السلام، فحزنت عليه أشد الحزن، ثم ما لبثت أن ماتت بعده بيسير، فصلى عليها سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع.
صلح الحديبية ومشورة سيدتنا أم سلمه
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أنه دخل وأصحابه المسجد الحرام، وطافوا واعتمروا فلما أخبرهم الخبر فرحوا فرحا شديدا، ثم أمرهم بالتجهز لأداء العمرة، وخرجوا في السنة السادسة من الهجرة.
مضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه أصحابه باتجاه مكة حتى إذا اقتربوا من الحديبية بركت ناقته، فقالوا:خلأت القصواء {امتنعت عن المشي } فقال صلى الله عليه وسلم ( ما خلأت القصواء ذلك وما لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها } 2.
فأرسلت قريش وفودا للتفاوض ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان ابن عفان وعهد إليه أن يدعوهم للإسلام و أنهم جاءوا معتمرين وأمره بتفقد المسلمين في مكة وإخبارهم بفتح قريب. ولكن قريش احتبسته فتأخر في الرجوع إلى المسلمين، فخاف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ،فدعاهم لبيعته على أن لا يفروا، فكانت بيعة الرضوان التي نزل فيها قول الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً 3
حينذاك استشعرت قريش الخطر فأرسلت سهل بن عمرو للتفاوض شرط أن يعدل المسلمين عن العمرة حتى العام القابل فأبرم الصلح.
ونترك كتب السيرة تحكي لنا قصة سيدتنا أم سلمه يوم صلح الحديبية. {ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموا فانحروا)، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمه، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما }4.
دروس وعبر
أثار انتباهي مقال في السيرة النبوية، عنونته كاتبته بأم سلمه تنقد الصحابة، أبرزت من خلاله دورها رضي الله عنها في تجنيب الصحابة عدم طاعة رسول الله صلى الله عليه مما قد يعرضهم للوقوع في معصية 5.
فأم المؤمنين بحكمتها ورجاحة عقلها، استطاعت أن تحل مشكلة وقع فيها المسلمون بسب عدم تقديرهم لقرار، وحكمة، وبعد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأبت الصدع، ولمت الشمل، ووحدت الصف، وكانت بمثابة مستشارة أمينة أحسنت تقدير الموقف ووفقت بنباهتها إلى إيجاد حل عملي وناجح للأزمة، كيف لا وهي التي وهبها الله إضافة إلى حسن الخلق والخلق، وكمال العلم والتقوى، حسن التدبير وحصافة الرأي.
كما تجلت من خلال هذه الواقعة مكانة المرأة في الإسلام، وكونها إنسان كامل الأهلية، يتمتع بجميع حقوقه، ولعل أهمها حفظ كرامتها والرفع من شأنها، من خلال التقدير والحب النبوي الذي أحاط به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جميع أزواجه، ورفقتهن له صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، وحظوتهن بثقته و مشورته. وهو بخلقه صلى الله عليه وسلم يرسخ سنة أصيلة، تمثلت في إشراك المرأة وتمكينها من المساهمة في صنع حاضر وغد مشرف لأمتها.
في حين نجدها قد غابت أو غيبت عن المشاركة في الشأن العام، والاهتمام بقضاياه. فأصبحت حبيسة جدران بيتها وانزوت عن طلب العلم ومطلب الكمالات، بسبب فتوى غلت في تطبيق مبدأ سد الذرائع، بحجة حفظ المصلحة العامة. فضاعت وضيعت ثغرا حصينا كانت تقوم عليه داخل الأسرة، وهو تربية وتعهد نشى صالح، فدب الوهن في أجيال، غدت بهم الأمة رقما لا وزن له بين الأمم، فتداعت عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
ونستشهد بكلام للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله يؤكد من خلاله على أهمية مشاركة المرأة في الشأن العام والقضايا العامة للأمة “ما لكن معشر المؤمنات من دليل يقيلكن ويعفيكن من المسؤولية السياسية. إن كانت السنة المطهرة خصصت لكن مجالكن الحيوي حيث تزاولن أمانة الحافظية صالحات قانتات فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدعمنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي. وليست تربية الأجيال إلا ترسيخا للمعروف وإبادة للمنكر. فأنتن تزاولن السياسة في البيت والمدرسة والمعهد والجمعية الإحسانية وميدان الشغل والكسب – لمن كانت منكن كاسبة – أسمى ما تكون السياسة“ 6.
فالسؤال هاهنا كيف لنا بفقه نبوي راشد، يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينهل من سنته الشريفة، لنتتلمذ عليه معشر المومنين والمؤمنات. ولعلنا نجد الإجابة في قولة بليغة للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله “ إن تتلمذنا للرسول المعلم الناصح صلى الله عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى التعليم، وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرحمة، وبسلوكنا يجدد تاريخ الجهاد، وإن أخذنا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن كتابا من عند الله هو الضياء والهدى والحياة، كنا على المستوى الرفيع الذي يمكننا من مراقبة الأمور من أعاليها لا من أسافلها“ 7.
____________________________________________________________________
1- الأستاذ عبد السلام ياسين كتاب تنوير المؤمنات ص 11ج 2
2- رواه الإمام البخاري
3- سورة الفتح الآية 18
4- الرحيق المختوم
5- د مارية ايدري موقع منار الإسلام
6- الأستاذ عبد السلام ياسين كتاب تنوير المؤمنات ص 304 ج2
7- الأستاذ عبد السلام ياسين كتاب نظرات في الفقه والتاريخ ص 44