ذة. نزهة الفيلالي: للقرآن الكريم على المرأة الأثر العظيم إن هي حفظت وتدارست كتاب الله بعقل المتدبر وروح المخاطب

يقينا منا بمحورية القرآن الكريم في مشروعنا المنهاجي، وإيمانا منا بأنوار كتاب الله إن حُفظ واستقر في الصدور، وتصديقا بأن المؤمنة مدعوة لتلاوته وتعلمه وتعليمه ومطالبة بشرف حفظه وتحفيظه، أجرى موقع نساء العدل والإحسان حوارا حول المرأة وعلاقتها بكتاب الله تعالى مع ذة.نزهة الفيلالي عضو الهيئة العامة للعمل النسائي لجماعة العدل والإحسان والذي نورده ضمن هذا المقال:
أية إضافة يمكن أن تحصلها المرأة من عنايتها بالقرآن الكريم حفظا ومدارسة ؟
الحمد لله فاطر السموات والأرض، مالك الملك المتفرد في عليائه، المتصرف في خلقه بحكمته ورحمته والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين، أشرف الخلق، الهادي إلى صراط الله المستقيم، صلاة تامة طيبة مباركة يُفتح لنا ببركاتها الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قبل الإجابة عن هذا السؤال والذي يتميز ببعض الخصوصية فيما يتعلق بالمرأة وعلاقتها بالقرآن، وكمدخل للموضوع يمكن أن نتحدث عن القرآن العظيم وفضله على الخلق أجمعين، قال تعالى: و ننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين (الإسراء 57) وقال سبحانه وتعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (يونس 57) فالقرآن الكريم هو نور وهدى وموعظة ورحمة وشفاء لما في الصدور، ففي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بكتاب الله، وإنّ به حيرة واضطرابا لا ينجيه منها إلا الاهتداء بنور الله، ولا غنى لأي إنسان عن القرآن مثبتا وهاديا ومعينا مهما بلغت درجته من العلم والتقوى، وعقوبة هجر كتاب الله والبعد عنه هي قسوة القلب التي حذرنا منها الله سبحانه وتعالى بقوله: ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون(الحديد 16) فسائر الأحوال التي تكون بها حياة القلوب وكمالها لا تنال إلا بقراءة القرآن وتدبره والتفكر فيه فهو الجامع لجميع المنازل والأحوال، فيعطي القلب قوة وحياة وسعة وانشراحا وبهجة.
أما عن الإضافة التي يمكن أن تُحصّلها المرأة من عنايتها بالقرآن الكريم حفظا ومدارسة فهي كبيرة وهامة جدا، حيث أن المرأة معنية بكل ما ذكرناه سابقا كونها تدخل في الخطاب العام للقرآن بخطابه للمؤمنين أو للناس أو ما عدا ذلك من الألفاظ أو الكلمات الجامعة فيما يتعلق بالمصير الأخروي وما قد تحرزه من أجر وقرب وإنابة وخيرية وطهر وأهلية وخاصية وحفظ وشفاء وأنس وكرامة و و و …وكل ما شئت من خيري الدنيا والآخرة الموعود به من حفظ وتلا وتدبر وتعلم وعلم القرآن، ومع هذا الفضل كله فإن للقرآن الكريم على المرأة الأثر العظيم إن هي حفظت وتدارست كتاب الله بعقل المتدبر، وروح المخاطَب بما في هذا الكتاب العظيم من أوامر وتوجيهات وإيضاحات لمعنى الإنسان و معنى وجوده و مآله و كل ما يتعلق برحلته الدنيوية عبورا إلى الآخرة مستقرا خالدا في رحمة الله بإذنه سبحانه، ويتجلى هذا الأثر في استيعابها لطبيعتها الإنسانية قبل طبيعتها الأنثوية، هذه الطبيعة التي أودع الله فيها من الطاقات والقدرات والإمكانات ما لا حصر له، حيث كان الإنسان محط عناية خاصة من الله سبحانه دون سائر الكائنات والمخلوقات فخصه بالعلم: وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضها على الملائكة (البقرة 31 ) وكرمه وجعل منه الأنبياء والرسل ولقد كرمنا بني آدم(الإسراء 70)، ونفخ فيه من روحه التي لا يعلم كنهها إلا الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي (الحجر 29)، وتوج الله سبحانه وتعالى هذه الخصال التي خص بها الإنسان بشرف الاستخلاف في الأرض إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا(الأحزاب 72) والأمانة هنا هي أمانة العبودية بالتخيير وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب على قول أغلب أهل التفسير.
فكون المرأة إنسانا قبل أن تكون امرأة يجعلها تستشعر حظها من هذا التكريم وهذا العلم وهاته الروح، بل وأكثر من هذا مسئوليتها في هذا الاستخلاف والتي تخرجها من قمم الضعف والاستكانة والدونية و”الوْلِيَّة” التي لا حول لها ولا قوة، بل وتخرجها من أسرها في أضيق التأويلات الفقهية وأعسرها وهي تقرأ في كتاب الله عمن جادلت ومن اختارت طريق الإيمان خلافا لزوجها فضرب الله بها المثل، وعن أمهات المؤمنين حين خيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الله ورسوله وعن تكريم الله لها كأم ووالدة، وصور التكريم لها في القرآن كثيرة تجعلها في موقف القوة لا موقف الاستضعاف الذي أرادوه لها، فهي إنسانة مكرمة في مواطن الخطاب للإنسان وأنثى معززة في مواطن خصوصيتها الأنثوية كأم وكزوجة وكامرأة على وجه العموم لا ينقص من كرامتها الإنسانية إلا نكوصها عن دين الله والالتزام بشرع الله وهي في ذلك مخيرة مكلفة ومسؤولة، و هي من عليها أن تبلغ الرسالة لكل من أراد لها غير ما أراده الله.
كيف تتمكن المرأة من جعل كتاب الله أولى أولوياتها في حياتها و تصير من المتقنات على الرغم من مسئولياتها المتعددة ؟
هذا السؤال يحيلنا في حقيقة الأمر على سؤال كبير ومهم جدا، فلا أحد ينكر أن أعباء البيت وتربية الأطفال والاهتمام بكل ما يتعلق بالأسرة واحتياجاتها يأخذ من المرأة جهدا كبيرا ووقتا طويلا خصوصا في مرحلة من المراحل العمرية للأطفال حين يكونون ملتصقين بالأم في كل احتياجاتهم المادية والمعنوية، والسؤال المطروح هنا، هل المرأة كإنسان وكأمة لله تختفي كل احتياجاتها الروحية والمادية بحيث تصبح لا معنى لوجودها إلا من خلال أطفالها وزوجها وأسرتها؟ لا أظن أن هناك عاقل يقول بمثل هذا وإن كان الواقع يكرس في كثير من الأحيان هذا الأمر، ولكن ما ينبغي أن نفهمه أن مسؤولية البيت والأسرة عظيمة وأجرها عند الله كبير ومعها وقبلها وبعدها هناك السباق إلى الدار الآخرة، السباق إلى الدرجات العلى في الآخرة، السباق من أجل مجاورة النبي صلى الله عليه و سلم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين، هناك محبة الله التي تدعوني لمجالسته ذكرا وتلاوة لكتابه الكريم، تدعوني لأخوض هذا السباق حتى أكون من آهل الله وخاصته، فإن كان الاهتمام بالأسرة جزء من السير إلى الله وطلب الزلفى عنده، إلا أنه لا يتمثله في مجمله ويبقى طرق الأبواب الأخرى ونيل الحظ منها من آكد الواجبات، و ذلك يتطلب اجتهادا وضبطا للوقت وتنظيما له في غير مضيعة، والقرآن مشروع العمر كله، فقد تكون المرأة في مرحلة من المراحل لا تستطيع أن تعطي أغلب وقتها لكتاب الله ليس بخلا منها ولكن نظرا لاحتياجات أطفالها المتواصلة لصغر سنهم أو لظروف معينة، غير أن هذه الحالة لن تدوم، فلا يلبث الأطفال أن يكبروا ويستغنوا عن خدماتها شيئا فشيئا، فتتفرغ هي أكثر فأكثر، وحديثنا هنا دائما عمن لديها أطفال أو لديها من تهتم بهم، ولم نتحدث عن التي ليس لها أطفال أو التي فرغت من مسؤولياتهم، أو التي لديها إمكانات مادية تساعدها على التفرغ نوعا ما من بعض الخدمات، والحالات تختلف من بيت لآخر ولا يمكننا أن نصدر حكما واحدا على كل النساء، أو نتحدث عن حيثية واحدة منهن، وأختم كلامي هنا أن مسؤولية البيت لا تعفي المرأة من الاجتهاد والمسارعة والتنافس في طلب وجه الله، كل واحدة من موقعها وما تسمح به ظروفها وفوق ما تسمح به اجتهادا وبذلا وعطاء، نبذل القليل في انتظار بذل الكثير، ونبذل الكثير في انتظار بذل الكل، والله في عون العبد ما دام العبد مجتهدا لبلوغ الهدف ما استطاع إلى ذلك سبيلا، والاستطاعة هي استفراغ الجهد، والمرأة على العموم لديها طاقة في الصبر والتحمل وتستطيع أن تفعل بها الكثير ولا تخلو الساحة من نماذج حفظن وأتقن وعلّمن رغم مسؤولياتهن المتعددة.
ما هي مجالات عناية امرأة العدل و الإحسان بالقرآن الكريم ؟ و ما الموقع الذي يتبوؤه في فكر الجماعة و تصورها ؟
عناية امرأة العدل والإحسان بالقرآن الكريم نابع من تصور الجماعة التي تربت في أحضانها وترعرعت رجولتها الإيمانية بين أعضائها وعضواتها لا فرق في ذلك بينها وبين شقيقها الرجل حثا على التسابق في الخيرات وتعاونا على الخير سواء على مستوى الأفراد كأفراد أو على مستوى الجماعة دعوة وتبليغا في إطار برنامج يوم المؤمن وليلته والمعني به كل أعضاء الجماعة بدون استثناء فالإمام رحمه الله ما فتيء يذكر ويحث على حفظ القرآن، حفظا في الصدور، كما أخلاقا بين الناس، وكان رحمه الله يريدنا مدارس قرآنية متنقلة عبر الأجيال ومن ثمّ كان الاهتمام بالقرآن من أولى أولويات الجماعة لأنه المنبع والزاد والنور الذي نمشي به بين الناس.
تنوعت مجالات الاهتمام بالقرآن الكريم كما اختلفت مستويات هذا الاهتمام، فنجد الحفظ في أصغر نواة للجماعة وهي الأسرة الإيمانية بنسائها الأميات كما المثقفات، إلى أكبر مؤسسة مسؤولة، الكل مطالب بالحفظ والسعي للنيل من هذا الخير والقرآن في الجماعة مشروع العمر فلا نقف عند مجال الحفظ فقط ولكن نسعى لنيل الإجازات المختلفة سواء فيما يتعلق بإتقان التلاوة أو الرسم أو القراءات بل ونسعى ليكون لنا حظ من علوم القرآن التي تساعد على تدبره وفهمه كاللغة العربية والتفسير والرسم القرآني وغيرها من العلوم، والمهم في الأمر عندنا أن يكون القرآن أساس دعوتنا فتبليغه للناس بنورانيته وأخلاقه وروحانيته لا لفظا لا روح فيه ولا معنى وإن كان اللفظ القرآني لا يخلو من نور لعظمة قائله سبحانه وتعالى، حتى نعيد للقرآن مكانته في الأمة فيصبح منهاج حياة لا زينة في البيوت والمكاتب والرفوف.
ومن خلال كل ما سبق نستشف مكانة القرآن الكريم في فكر الجماعة ومنهاجها فهو مركز تصورها وأساس انطلاقها في كل مجالات عملها رغم تنوع هذه المجالات، فبالعودة إلى مؤلفات الإمام رحمه الله لا يخفى عليك هذا الأمر وترى حضور القرآن استشهادا ومعنى وألفاظا وفهما بل إن الجهاز المفاهمي في كتاباته مستنبط من القرآن الكريم، وفي تنظيره لمشروعه المجتمعي تجد القرآن قد احتل المرتبة الأولى فمنه المنطلق وإليه الرجعى كما يعبر عن ذلك في غير ما موضع، ونختم بمقتطف من كتاب إمامة الأمة قد يوضح الصورة التي قد يعجز الكلام عن توضيحها يقول الإمام رحمة الله عليه: فتوبتنا إلى الرحمن، وتسميتنا لدولة القرآن، لا يصحان لنا إلا بهدي القرآن، منه ننطلق، وإليه ننتهي. به تطب القلوب، وبه تهذب الأخلاق، وفي مدرسته تطبع كل العلوم لتأخذ صبغة الله، وتجنّد لخدمة دين الله. الحق الذي جاء به القرآن هو معيار كل القيم، به نعرف نسبة الإنسان للإنسان، ونسبة الإنسان للكون، ونسبة الدنيا للآخرة، ونسبة الحق للباطل، في إطار نسبة العبد لربه. وأنصع ما تكون النسبة بين العبيد ومولاهم الحق حين يتلون كتابه المنزل عليهم رحمة وحكمة، وحين يشمرون لتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي. فإذا صحت هذه النسبة بين العبد ومولاه، بين الأمة وربها وسيدها، اتخذت كلُ ملكات الإنسان وطاقاته الظاهرة والباطنة من قلب، وعقل، وجسم، وأشياء صنعتها المهارة، وعلاقات نسجتها الأعراف، وتاريخ ألفته الأقدار، مكانها الحقيقي بالنسبة للغاية التي كشف عنها الرب جل وعلا لعباده. عبد السلام ياسين، إمامة الأمة ص: 158.