كم من حملات يحتاجها على عجل وطني؟!

لا يمكن للمتتبع إلا أن يقف مشدوها منقطعة منه الأنفاس من هول الصدمات والارتجاجات الاجتماعية التي تخفي وراءها غابة من البؤس والاستضعاف، ونقص العدالة الاجتماعية والنصفة في قسمة الأرزاق. تشهد أعيننا مآسي وأحوالا ليست شاذة في نسيجنا المجتمعي، ولكنها بمثابة ذلك النموذج الذي يعرضه صاحب المنتوج ليبين للمشتري نوعية البضاعة التي ينتجها مصنعه.
واقعة مي فاطمة ومحسن والأستاذ المعنف والتلميذة المتحرش بها عيانا في الشارع العام وغيرها من الوقائع، إنما هي شجيرات تخفي وراءها أكمة من التردي والانحطاط المجتمعي الذي وللأسف يتداول المتلقي أخباره بأسف وحزن، ويتلقاه بخوف على مآله ومصير محيطه، ويُنفس عن أحزانه ودهشته بكلمات هنا وهناك، ولا تنفك أن يطالها النسيان ويعود قطار الحياة إلى دورته الرتيبة وكأن شيئا لم يكن.
وبغض الطرف عن واقعية الأحداث أو أنها مجرد فقاعات تطلق للإلهاء عن مخطط نازل أو مرجو التنزيل، فإن المتفحص لا يمكن أن يتغافل عن مرارة واقع نتجرعه في أوطاننا وبضغط كبير، عنوانه التردي القيمي الذي تتمثل مظاهره على مستويات عدة منها:
تهاوي العلاقات الاجتماعية والتدبير الاقتصادي والفعل السياسي، وضعف الحكامة وسوء تدبير مرافق الدولة والارتجالية في إدارتها، والتهافت على التطبيع مع كيان الوصم والعار والشنار والترويج لذلك ببلاهة وبلادة تحت مسميات التبادل الثقافي أو التعاون الاقتصادي أو السياحة للتعريف بالقضية الفلسطينية وقس على ذلك.
ومن مظاهره المريرة السفاح وتداعياته المحصاة في شوارع المدن والتي تفوق أربعة وعشرين طفلا متخلى عنهم يوميا بمقابل وجود مائتي ألف أم عازبة، وثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة وستين طفل في السنة مولود خارج مؤسسة الزواج في جهة البيضاء وحدها.
تفاقُم استهلاك المخدرات، حتى في الأوساط التلمذية، أصبح أمرا يكاد يرقى إلى مستوى الظاهرة، فقد كشف تقرير صدر لحوالي ثلاث سنوات، تابع للمرصد الوطني لمحاربة المخدرات والإدمان أن ما بين 4 و5 في المائة من السكان في المغرب يتعاطون المخدرات بأنواعها، وتلميذا من أصل خمسة في المغرب سبق أن استهلك السجائر ولو لمرة واحدة في حياته، وواحدا من أصل ثلاثة حصل على المخدرات من أمام أبواب المدارس، وواحدا من أصل عشرة استهلك القنب الهندي، وحدد التقرير الصادر عن مركز الأبحاث والدراسات حول المخدرات والبيئة، نسبة الشباب المغاربة الذين يتعاطون المخدرات بشكل يومي في 26%، 90% منهم تقل أعمارهم عن خمسة وعشرين سنة.
أما الظلم الاجتماعي الكاسح الذي ينطق به التفاوت الحاصل بين فئات المجتمع فمما لا يمكن إخفاؤه، إذ تعيش القلة القليلة منه الغنى الفاحش وتتمايل من شدة الشبع، وغالبية تعيش الفقر والخصاص وتتلوى من شدة الطوى، مما يجعلنا أمام الجزم بفشل سياسات “الإصلاح”، وضرورة إقامة العدل ونصب ميزان النصفة في قسمة الأرزاق خاصة أن الاستحواذ يمنع المواطن المغربي من الاستفادة من الناتج الداخلي.
أما حال المدرسة المغربية فمتدهور مطبوع بالارتجالية، يبرهن على ذلك تخريجها لأجيال معطوبة على العموم، لا هي أتقنت التعلم، ولا برعت في الأخلاق، ولا تأهلت لشغل المهن والوظائف باحترافية وإتقان.
أما إعلامنا فمستبيح فاسد مفسد في غالب أحواله، يتقن عرض البلادة ومسلسلات الغرام، وينفخ السم الزعاف في عقليات لم تشب عن طوق المراهقة الفكرية والعاطفية، ولم تتلق التربية المتينة بين آباء شغلهم عن قداسة الوظيفة اللهث وراء لقمة العيش، فأصبحوا عرضة لإعلام مستبيح يعلمهم الجرأة على الأقارب والأباعد، والغرام الفاشل، والانتصار للباطل بشحن عواطف المتلقي حتى يساند البطل وإن كان أخرق ظالما، مع رداءة إنتاجات تعرض من عيار “كي كنت كي وليتي”، والتي كان بالإمكان أن تكون مميزة فكرة، لو سلطت الضوء على المفسدين المتلاعبين بقوت الشعب، وقدرته الشرائية، ومصالحه الاستراتيجية، لتُظهر لهم إلى أي حد تغيروا، فتحولوا من حملان وديعة تستجدي أصوات الناخبين لتطبق برامج “واعدة”، إلى مفترسين للوطن، إلى مستغلين لخيراته، مستعبدين لأهله، مستحوذين على ممتلكاته كل بحسب قوته وشراسته.
انفلات الأوضاع الأمنية وانتشار القلاقل هم يومي للمواطن الذي أصبح غير آمن في سربه ولا على قوت يومه،
وتنامي بإزاء ذلك المطالبات بالعيش الكريم في العديد من الحواضر والقرى والتي تؤشر على ارتفاع منسوب الوعي بالمطالب، وارتفاع حُجب الخوف، وكارثية الأوضاع الاجتماعية، وانتشار البطالة، والتفقير والتجهيل…
لسنا بصدد كشف سوءات وطن نحب ثراه ونعشق تربته الأم، لكنا نسهم بما أوتينا من جهد في المشاركة في نداءات التغيير المستعجل قبل أن تأزف الآزفة ولن تكون لها من كاشفة إلا بأثمان باهظة وارفة، ولن ينفع حينئذ معها ترهيب ولا ترغيب.
كم من حملات يحتاجها وطني لعل العافية تلامسه، حملات لتحصيل تغيير سياسي، وإقلاع اقتصادي تنموي، وإسعاف اجتماعي، وإصلاح مؤسساتي، وارتقاء قيمي… وإلى ذلك الحين دعونا نعلي الصوت باثنتين:
#واشماعندكش_اختك
#أسرتي جنتي