ثوابت في بناء الأسرة

استهلال
في هذا المستهل تجدر الإشارة إلى القيمة الإنسانية والضرورة الشرعية والحاجة الطبعية لبناء الأسرة وإنبات نشء طيب الأصل والفرع، لا سيما في ظل ظروف تحكمها مفارقات غريبة وفي سياق عام يتهدد الأسرة المسلمة ويسلمها للتفكك والتصادم والانهيار. كما أن العالم صارت تتقاذفه رياح هوجاء توجهها قوى ضغط تحاول أن ترسم للإنسان صورة أحادية نمطية دوابية للعيش تكون مرجعا للحكم على الآخرين الممانعين لأي غزو فكري أو ثقافي أو مجتمعي يختلف عن المرجعية الإسلامية التي تريد أن تكون الأسرة فاعلة مؤثرة وبانية للمجتمع الحر الكريم العابد لله في أبهى صورة العبودية الفردية والجماعية. ولنا في ساف عهدنا المجيد صورة عظيمة يقتدى بها للأسرة المسلمة كما أرادها الله لعباده.
لذلك يبرز هنا سؤال مهم، ما هي الثوابت التي من خلالها نؤسس لأسرة فاعلة وإيجابية؟
لمقاربة هذا السؤال، نطرح الثوابت الآتية أملا في فتح الباب أمام النقاش والتداول، وسعيا لمزيد من الكشف والبوح.
1 – التعاون
لا شك أن الأسرة بكل مكوناتها الأب والأم والأولاد والأقارب – وهي أطراف لها الأولوية في بناء الأسرة – يجدر بها أن تقوم على التعاون وتبادل الأدوار في الحياة، وهذا التعاون يكشف من جهة حقيقة الوجود الإنساني لأن تواجدهم في الحياة إنما ينبني على تعاونهم فيما بينهم، ولم يكن ولا يكون للحياة وجود بدونه، وقد أثبتت الوقائع التاريخية منذ القدم على تعاون الناس فيما بينهم وهي حقيقة لا تزال ماثلة للعيان، والأسرة في تصريفها لشؤونها تتوسل بهذا الثابت الملح في ذلك، ولها ومن جهة أخرى بعد شرعي تعبدي يتب به العبد إلى الله سبحانه، لما أمره بالزراج وحببه إليه وجعله من سنن الأنبياء والأصفياء والأولياء.
وليس التعاون إلا قوة تدفع بالحياة الأسرية إلى مزيد من العطاء والبذل والفاعلية والتأثير الإيجابي، يقول المولى سبحانه:وتعاونوا على البر والتقوى. جاء عند القرطبي في تفسيره: وتعاونوا على البر والتقوى. هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليُعِن بعضكم بعضا، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه. وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية: اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله .
والأمر في قوله تعالى: (وتعَاونوا) أمر إيجاب فيما يجب، واستحباب فيما يستحب، وندب فيما يندب.ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويقول عليه الصلاة والسلام: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ويأخذ التعاون صفة إحسانية، تراعي في الاجتماع الأسري طابع المودة والرحمة، لقوله تعالى: وجعل بينكم مودة ورحمة. إذ تحتاج الأطراف لبعضها حاجة يحكمها جامع التواد والتراحم وليس الشفقة والتفاضل والصراع: أيهم أقوى أو أشد أو أحق أو أسبق، فالأسرة كيان واحد ملتحم لا يقبل التجزيء ولا التنافر. لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي.
وقد جاء في السيرة النبوية المطهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حرفة أهله، وكان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته…
وثمرة هذا التعاون كما قال ابن القيم رحمه الله: فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر.
2- الصبر
لتذليل الصعاب وتجاوز العقبات ولعها كثيرة وشاقة، لا بد من تحمل كل طرف من الأطراف الآخرين، والصبر آلة تدك أمامها صخور المشاكل وجلاميد الصعاب، وينبت الصبر من أشواك الحياة الصعبة الشديدة، وليس في ظل الحياة السهلة الهينة، وعلى قد أهل العزم تأتي العزائم، وله أوجه منها حث النفس على ما تكره وإلزامها في ذلك مراعاة المقاصد الشرعية من تأسيس الأسرة وفي مقدمة المقاصد الاستمرارية والدوام فالزواج في تعريفه أيضا البناء، وهو للاستمرار والدوام ولا يدخله النقض والهدم أبدا… يقول الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
3 – المصارحة
المصارحة نبل في أصلها، ودليل على سلامة الطوية وحسن النية، ولا شك أن الأسر التي تنعدم فيها المصارحة بين الأطراف، تتحول الحياة مع الأيام إلى سلسلة لا تتوقف من الأكاذيب والحيل والالتواءات غير المبررة، مما يسمح للشك وسوء النية وعدم الثقة بالتسلل إلى هذا البيت الجميل، فتتعقد الحياة ويستحيل اللم والتوفيق، ويطرد الخوف والتوجس السعادةَ من البيت.
والمصارحة أصل ثابت من أصول بناء الأسرة، تغذي الثقة، وتنشر التفاهم، وتبعث الطمأنينة والسعاة. وقد تهدمت بيوت، وانهارت أسر، بسبب إخفاء بعض الأسرار حيطة أو تكبرا، وتجنب أحد الأطراف الإدلاء ببعض الأحداث والوقائع بحسن نية أو تعمدا.
ومكمن الفلاح في المصارحة هو إشراك الطرف الآخر في كل القضايا والمواضيع، والحرص على إنفاذ الميثاق الغليظ إلى أبعد حدوده المادية والمعنوية الوجدانية والإنسانية. وهي من جهة تقدير كل طرف للآخر واحترامه له، وانعكاس حي للرغبة المشتركة في الاستمرار ومواصلة العيش دونما إخفاق.
4 – التشاور
يحرص البيت الأسري في صورته المطلوبة على التشاور في كل القضايا والموضوعات، والعمل بصدق على بذل الجهد المشترك في حل المشاكل التي تعترض هذه الأطراف، زوج وزوجة وأولاد… وما ندم من استشار، وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشورة زوجاته وأجراها مستفيدا من حصافتهن وبعد نظرهن، وهذا تعبير حي وواضح عن عمق التعاون والمودة والمصارحة التي ينبغي أن تربط بين كل الأطراف داخل الأسرة، وهو عماد قوي من أعمدة البناء الأسري. وليس أمر يثبت للأسرة في نجاحها أفضل من التشاور، منشأها خير ومآلها.
تلكم كانت بعضا من الثوابت التي أجراها قلم المودة على ورقة الرحمة في رحاب السكينة، مهداة لكل أسرة يجمعها سقف الإسلام الدافئ الرفيق، نرجو معا من العلي الكريم أن يحفظ كل أسرة مسلمة، من التفكك والصراع والخلاف المميت، ليحيى نشؤنا في ظل العدل والإحسان المؤمور بهما في قوله تعالى في سورة النحل: إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.