أســــرتــــي جــنــتــي

وقفت أمام المرآة تقمط رأسها بخمارها البنفسجي، وترتب هندامها استعدادا للخروج، لم يبق إلا بضع دقائق على وصول زوجها “سي احمد”…، تذكرت صينية التحلية التي وضعتها في الثلاجة فقفلت عائدة إلى المطبخ وأخرجتها…
في تلك الأثناء كان “سي احمد” في طريق عودته من المدرسة التي يدرس فيها ابناه التوأم “إلياس وأويس”، كم يفرح إلياس وأخوه أويس بهذا اليوم المميز من الأسبوع، إنه اليوم المخصص لزيارة الجدة، حيث يلتقيان في منزلها بأبناء عمهما ويقضيان مساء يوم الأربعاء في اللعب داخل حديقة المنزل، يتناوبان على اللعب في الأرجوحة التي اختارت الجدة أن تعلقها في شجرة الخروب، هذه الشجرة التي تمتد أغصانها لتظلل الأطفال من قيظ الحر، وكأنها تضمهم بين حضنها الممتد بشكل دائري يلفهم من كل جانب. لم يكن الأطفال هناك لوحدهم؛ بل تحيط بهم بعض الحيوانات الأليفة التي لا تستغني الجدة عنها، بل لا تتخيل أن تعيش بدون نعاجها و خرافها و بقرتها الحلوب التي يتبعها عجلها البني. لكن ما كان يعجب الأطفال هو تلك البطات التي تحوم حولهم ثم تعود أدراجها إلى حوض الماء؛ فيجتمع الأطفال على جنبات الحوض يتنافسون على نثر بعض فتات الخبز الذي تجتمع عليه تلك البطات في شكل جميل.
رن جرس البيت؛ عرفت بشرى أنه زوجها “سي احمد” فخرجت مسرعة وفي يدها صينية التحلية، امتطت السيارة التي اتجهت بهم نحو منزل الجدة الذي يبعد بضعة كيلومترات عن ضجيج المدينة وهوائها الملوث، إنها فرصتهم الأسبوعية لأخد نصيب من النقاء والتآلف والصفاء.
كانت “لالة حليمة” في استقبالهم بفرح وترحاب كبيرين، وكعادتها قبل أن تدعوهم لمائدة الطعام التي سبقهم للتحلق حولها باقي العائلة، تسألهم: هل أديتم صلاة الظهر؟ كان حرصها على إسعاد أولادها وأحفادها لا يقل عن حرصها على طاعتهم لخالقهم، الكل يحفظ جملتها المشهورة: “سعادتنا حقا وفرحنا حقا في طاعة الله حقا وصدقا”.
عاد الأبناء بعد تناول وجبة الغداء مسرعين إلى أعمالهم بالمدينة، تاركين زوجاتهم وأبنائهم يستمتعون بجو العائلة الطيب الذي تفوح منه نسمات الحب وصفاء العشرة التي تختلط بعبق الطبيعة وشذى الأطيار وأنوار الذكر والسماع.
تجمع الجدة “لالة حليمة” كنتيها بشرى وهدى وابنتها صفية بعد عصر ذلك اليوم في جلسة حفظ ومدارسة لكتاب الله وتدبر في آياته وسماع بعض الأحاديث وقصص السيرة النبوية، كانت تحب أن تسمع منهن وأن تتعلم بعض السور والأحاديث. جلسة ذكر ولحظة صفاء و سمو؛ غالبا ما كانت تسبقها أو تتلوها بعض الجلسات الجانبية الثنائية بينها و بين إحداهن، لحل مشكلة بينها وبين زوجها أو استشارة في أمور المعيشة و تدبير تصاريف الأيام و عقباتها.
لم تكن بشرى هذا المساء على ما يرام، حاولت جاهدة ألا تعكر صفو هذه الأمسية العائلية الرائعة؛ تظاهرت بالقوة والشجاعة وحاولت التركيز، لكن هيهات! لم تكن عين “لالة حليمة” لتغفل عن حالة بشرى التي تغيرت فجأة بعد الغداء، فقد اشتدت حمرة وجنتيها و علت صفرة على جبينها الذي بدأت تنبع منه قطرات من العرق، “هل تحسين بشيء؟” كان سؤال “لالة حليمة” كفيلا بأن يجعل عبرات بشرى تنهال منسابة على خديها، إنها حالة من الضعف البشري… لا بد إذن أن تُنْقل بشرى على وجه السرعة إلى مصحة المدينة.
جلس “سي احمد” قرب سرير زوجته و إلى جانبه أمه “لالة حليمة”.. لم يخطر ببالها لحظة أنها ستقف هذا الموقف الصعب؛ التحاليل والفحوصات لا تبشر بخير، فهل تواسي نفسها أم تهون على ابنها “سي احمد” أم ترفع معنويات بشرى التي لا علم لها ولا خبر.
… طالت الأيام ببشرى في المصحة، وعرفت أن المرض الخبيث بدأ ينخر ثديها الأيمن، فاستسلمت لقضاء الله راضية دون أن تفتر عن البكاء والتحسر على ولديها.
كان “سي احمد” يرفض مطلقا أن يساعده أحد في مصاريف عملية زوجته و تكاليف علاجها، حيث كان يرد على أخويه اللذين أبديا كامل الاستعداد للمساعدة قائلا: “ما دمت قادرا على الإنفاق فأنا أولى بزوجتي” ..
لم يكن يأنف أن يساعدها أو يغير ملابسها، بل لم يسمح لأحد أن يعتني بها حتي أمه و أمها؛ .. لقد كان هذا الوفاء الكبير من “سي احمد” الذي عاشته بشرى في هذه اللحظات العصيبة؛ طاقة خفية تتسرب إلى قلبها بانسياب وتتدفق لتمنحها القوة والإرادة على مقاومة المرض والصبر على تحمل العلاج؛ لم تكن تخجل حين تصارحه قائلة: بك يا “سي احمد” سأقاوم المرض ومن أجلك ومن أجل أولادنا سأنتصر على الداء إن شاء الله الشافي.
حبل الود والحب والسكينة الذي فتل فيه تآلف الأسرة الكبيرة، وانشغال الجميع بإرضاء الله وطاعته، كان زورق نجاة بشرى من محنتها التي تجاوزتها بنجاح.
استقبل “سي احمد” تهنئة الطبيب بامتثال زوجته للشفاء بفرح سبقته دموع قل أن تنزل إلا من عين من أحب بصدق وأعطى بحب ووفى بحق العشرة.
.. انتظرت بشرى ساعة عودتها إلى بيتها واحتضان طفليها طويلا، انتظار خفف ثقله عظم الرجاء في الله، ويقين المؤمنة المصابة المتوسلة في إجابة الدعاء من رب كريم، وسند قوي من زوج وفيِّ، وأسرة جسدت معنى الجسد الواحد، كينونة وإحساسا ودعما ومواساة. ..
سبقت زغاريد “لالة حليمة” وصلاتها على النبي ولوج بشرى إلى منزلها، عانقتها والدتها بحرارة، واحتضنتها حماتها في حنو مهنئة الكل بعودتها الميمونة إلى بيتها، ارتمى إلياس وأخوه في حضن أمهما؛ التي لم تمتلك إلا أن تصبر على قوة الاحتضان والضم من ولدين طال اشتياقهما لأمهما، لكن “سي احمد” أنقذها من عنفهما البريء؛ بأن قدم لهما هدية بهذه المناسبة جعلتهما ينشغلان بها قليلا.
توجهت بشرى إلى أسرتها بالشكر والثناء على الدعم والمساندة، واعترفت للجميع بلحظات الضعف التي كانت تمر بها، والتي لم يكن يبددها ويوقد شعلة الأمل وضياء الصبر إلا هذا السند القوي من زوجها.
كانت محنتها في طيها نعمة خفية ولطيفة ربانية، أظهرت للعيان معدن هذا الزوج الأصيل، ووطدت قوة علاقتهما الزوجية، التي ما زادتها هذه المحنة إلا وهجا في المشاعر، وصدقا في العطاء، وإحسانا في العلاقة، وطمعا في كرم العزيز الوهاب أن يكتبهما من الذين يدخلون الجنة مع أزواجهم يحبرون وأن يلحق بهما ذرياتهما في أعلى النعيم.
قصة بقلم الأستاذة حسناء ادويشي.