بسمةُ مَنون تُدمع العُيون

مَليكة مَلَكَت القلوب بابتسامتها الآسِرة التي لم تكن تفارقها أبدا؛ حزنها في قلبها، وبِشْرها على وجهها.
مليكة ملكَت قلوب مَن عاشرها بخدماتها الحانية؛ كانت رحمها الله تُغَسِّل الموتى من المؤمنات بعناية وإتقان فائقَيْن، وكانت رحمها الله تُدرِّب أعدادا من المؤمنات الطّاهرات العفيفات على القيام بهذا الواجب الكفائي الاستثنائي خاصة في صفوف النساء.
كانت – كما شَهِد لها بذلك مَن عرفها عن كثب- نِعْم البنت البارّة، ونِعْم الزّوج الودود، ونِعْم الأُمّ الرّؤوم، ونِعْم الأخت الحاملة لِـهَمّ أخواتها، العاملة على مُواساتهنّ، السّاعية لإسعادهنّ على حساب راحتها وخاصّة شأنها.
كانت مواظبة على مجالس العلم والإيمان؛ حضرَت آخر مجلس للنصيحة عقدته المؤمنات في حيّها مبكّرة كعادَتها، وصحِبَت معها ابنها الصّغير الذي لفت الحاضرات مَرَحُه، كما لفت نظرهنّ مرح لِدّاته من الصّغار والصّغيرات، فاستأذنت وذهبَت به هنيهة، ثمّ عادَت وهي تحمل معها وريقات إشهار مَكَّنَت الصّغار منها لتخفّف مِن كثرة مرحهم المشوّش على المجلس، وواصَلَت دقائق اللّقاء الغالية بصمتها النّاطق ببسمة مُحَيّاها الفَرِح بفضل الله ورحمته، وسكينة قلبها المنتشي بمحبّة أهل المجلس وما يندّ عن ألسنتهنّ من قبسات التنوير وحِكْمته.
انتهى اللقاء وهمَّت بالانصراف فكان آخر عهدها بأخواتها الاعتذار عمّا بَدَر من الصّغير، وكأنّها تتسامح معهنّ قبل أن تلقي بقدمَيْها خارج الباب، وتتوارى بالحجاب، ولم تَدْرِ، ولا كان المؤمنات يدرين أنها ستتوارى عن هذا المجلس الجامع الماتع الرائع بعد أسبوع لا أكثر بالجسد لا بالرّوح وإلى الأبد.
كان ذلك يوم الخميس الأسعد، وكانت الفقيدة رحمها الله صائمة، وكانت قد عادَت مِن تغسيل ميتة حين ودَّعَت أبناءها الثّلاثة بعد أن هيّأَت لهم ما يحتاجون إليه واعدة إياهم بأنّ غيابها لن يطول. خرجَت مِن منزلها متوكّلة على الله ربّها، والتحقَت بمن حفّزَت لعزاء إحدى المؤمنات في فقيد حميد، واقترحَت أن تكون المواساة بمال لا بسُكّر كما جرى عُرف العزاء في مناسبات أخر لأنّ المفجوعة في مَن فقَدَت بحاجة إلى ما به تشتري، لا إلى مُشترى، ولما أرادَت أن تساهم هي الأخرى بما قدر الله لها أن تساهم به، وأمَدَّت مَن تجمع المساهمات بنصيبها أسْلَمت روحها إلى باريها وفارقت الحياة.
رَحَلَت مليكة صائمة مقبلة باذلة مُستَعمَلة مُعسلة. عن أَنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا أَرادَ الله بعبدٍ خيرًا استعمله، قيل: كيف يستعملُهُ يا رسولَ الله؟! قال: يوفّقه لعمل صالح قبل موته» رواه الإمام أحمد والترمذي. وفي حديث آخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَه ، قيل: وما عَسَلُه؟ قال: يفتح الله له عملا صالحا قبل موته، ثم يقبضه عليه» رواه الإمام أحمد.
هذه واحدة من متعدّد هو من علامات حسن الخاتمة، والبقيّة الأخرى أتَتْنا تترى بُشرى وذِكرى عن هذه الأَمَة التي جعل الله موتها يُسرى لتنال قبرا وحشرا ونشرا – بإذن الله – ما أعدّ الله لها نورا وأجرا في دار نعمته الكبرى جنّة وسرورا، ورفعة وحُبورا، وظلاّ وقصورا، وفواكه وأنهارا، وشربة مِن يد مَن كان بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وجعله الله في دار الحساب والجزاء شفيعا ومجيرا، وجارا للمُحبّين المتحابّين المحبوبين أهل المنابر والأسِرّة، أرباب الوجوه النّاضِرة إلى ربّها ناظِرة.
من تلك العلامات الأخرى التي أحصاها العلماء لمن أكرمهم ربّهم بحسن الخاتمة -من خلال استقراء النصوص الواردة في ذلك – ما أكّده المؤمنات بالمتواتر عن هذه الفقيدة الحميدة السّعيدة:
* أنّها نطقَت بالشّهادتين آخر عهدها بالوجود؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كان آخرُ كلامهِ لا إله إلا اللهُ دخل الجنّة» رواه أبو داود.
* أنّها ماتت في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات فى سبيل الله فهو شهيد». رواه مسلم
* أنّها ماتت على عمل صالح لقول حذيفة رضي الله عنه: «أسنَدْتُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: ” من قال لا إله إلا الله ـ قال حسن: ابتغاء وجه الله ـ خُتم له بها دخل الجنة، ومن صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة» رواه الإمام أحمد.
* أنّها ماتت ليلة الجمعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلاّ وقاه الله فتنة القبر » رواه الإمام أحمد.
وعلامات أخرى يُحصيها المؤمنون والمؤمنات لهذه الرّاحلة الفاضلة رحمها الله:
أَن ماتت وسط جماعة من المؤمنين والمؤمنات حِسّا ومعنى، إيمانا وأمْنا، بركة ويُمنا في صحبة وجماعة.
أن تركَت عقِباً لها صالحا هو مِن عَمَلها الذي لا ينقطع حتى بعد أن ينقطع حبل العمر، مع العِلم النافع الذي علّمَتْه أخواتها من خلال تدريبهنّ على حسن تغسيل الموتى؛ وهل ذلك إلاّ صدقات جارية، وسنّة حسنة لها أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك مِن أُجورهم شيئا كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والدّالّ على الخير كفاعله. والولد الصالح لوالدَيْه عَمَل وبَدَل وأَمَل، بل عُمْرٌ ثان، وقد خلّفَت وراءها ولدا وبِنْتَيْن؛ نباتَيْن وبُنيان. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن عال ابنتين أو ثلاث بنات، أو أختين أو ثلاث أخوات، حتى يَبِنّ أو يموت عنهن، كنت أنا وهو كهاتين (وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى)» رواه الإمام أحمد.
ومِن علامات حسن خاتمة هذه الطيّبة كذلك:
أن كانت دارُها مفتوحة الباب لاستقبال المؤمنات، ولإيواء دعوة الله، وخدمة إماء الله وإكرامهنّ إكراما إبراهيميا إلى آخر رمق مِن حياتها؛ يقول الإمام المجدّد رحمه الله: ” المؤمنة إذا فتَحَت بيتها لدعوة الله نالَت بذلك ثلاثة أفضال:
أولا: ناب بيتها مناب بيت الله وأعظِم بها مِن نيابة في وقت صار فيه بيت الله ضِرارا؛ أي بيتَ دولة لا بيت دعوة بعد أن أُفرِغ مِن مُحتواه، ووُظِّف لغير ما أُعِدّ له.
ثانيا: وما مِن خيرٍ فُعِل في بيتها إلاّ وكان لها مِن الأجر كِفاء سواءٌ بسواء.
ثالثا: وذِكْرُ المؤمنين والمؤمنات اللهَ في بيتها حصانة لها وللأبناء حتّى وإن لم تذكُر هي والأبناء، فكيف إن ذَكَرَت وذَكَر الأبناء؟!“.
أن كانت رَحِمَها الله جنازتُها حاشِدة، شاهِدة على حُبّ الجميع لها، وعلى أنّها عاشَتْ بينهم شامةً وسط الأقران مُمثِّلة “للعدل والإحسان” بعدل وإحسان؛ عن أَنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «مَرُّوا [على النبيِّ صلى الله عليه وسلم] بجنازةٍ، فأَثْنَوْا عليها خيراً، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وجَبَتْ، ثم مَرُّوا بأخرى فأَثنَوا عليها شرّاً، فقال: وجَبَتْ، فقالَ عُمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه: ما وجَبَتْ؟ قالَ: هذا أَثنَيتُم عليهِ خيراً، فوجَبتْ له الجنةُ، وهذا أَثنيتُم عليهِ شرّاً، فوجَبتْ له النارُ، أنتمْ شهداءُ الله في الأَرض (وفي روايةٍ: شهادةُ القوم المؤمنين)» رواه الإمام البخاري.
وفي حديث آخر: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ أَبْيَاتِ جِيرَانِهِ الْأَدْنَيْنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا خَيْرًا إِلَّا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ قَوْلَكُمْ، أَوْ قَالَ: شَهَادَتَكُمْ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» رواه البيهقي في شعب الإيمان.
بعد أن وارَيْنا جثمان الـمُغسِّلة المـُغسَّلَة، المـُكفَّنَة الطيِّبة المطيَّبة، وترحَّمْنا على روح الوليّة التقيّة النقيّة الخفيّة – أو هكذا نحسِب ولا نُزكيّ على الله أحدا – وواكَبْنا عمليّة إقبارِها في رَمْسِها بآيات بيّنات وكأنّنا نزُفّها في يوم عُرسِها إلى روضة من رياض الجِنان بين يَدَيْ أن تلتحق بالرّفيق الأعلى الملك الديّن الحَنّان الـمَنّان، وأَتْبَعْنا كلّ ذلك بموعظة وثناء، وتثبيت ودعاء من شِغاف الجِنان، وعزَّيْنا زوجها وأقارِبها سائلين لهم من الله الصبر والسّلوان كانت مشاعِرُنا مَعاشِر الـمُشيّعين مزيجا من دمعة وابتسامة؛ دمعة حزن على مَن فقَدْنا، ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربّنا، وابتسامة على حسن الخاتمة التي شَمل بها الشّكور هذه الأَمَة.
بَسْمة صلاح مِن شمس أشَعّت ثمّ غربت، نسمة أَقاحٍ مِن زهرة فاحَتْ ثمّ ذبلت، لمسةُ راح رَبَّتَت على كَتِف الزّمان الـمُتعَب الـمُثْخَن بالجروح، الـمُعَنّى بالقُروح ثمّ رُفِعَت.
مَوعظة؛ و«كفى بالموت واعظا»، ذِكرى؛ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، بُشرى؛ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، تُحفة؛ و«الموت تحفة المؤمن».
سمِعْتُ زوجي – وهي تتلقّى عبر الهاتف الخبر ثانية من إحدى الصّديقات الحميمات بنبرة باكية – تقول للنّاعية: “مَنَّيْتُ نفسي أن تكون مُهاتفتُكِ تكذيباً لهذا الخبر الذي نُشِر لكنّه نَقَر في قلبي ونقر حتى وَقَر أنّ مليكة صغيرة السِنّ كبيرة السِرّ رَحَلَت فلا حول ولا قوة إلاّ بالله، والله أكبر“. فقُلت في نفسي وأنا أسمعُ إصرار زوجي على التثبّت من صحّة الخبر: “صَدَقَت والله؛ ما مات مَن ترك وراءه أعمالا صالحة، ما مات مَن ترك خلفه دعوات صالحة، ما مات مَن ترك عقِبَه ذرّية صالحة، ما مات مَن ترك إثره وإرثا له ذكريات صالحة لأن يكون جِماعُها سيرة ربّانية تستحقّ أن تُكتَب قصّة محكيّة في الأنوار القدسية، أو الرّسالة القشيرية، أو اللطائف الـمِنَنِية”.
صَدَقَت ولم يكذب النّاعون إذ أخبروا وأخْبَرْن عن موتها؛ فالموت حقّ لا يُدرأ، وموعد لا يُرجأ.
رحم الله مَن ماتَت فأحْيَت قلوبا وهِمَما وقِيَما، وكان الله لها صاحبا في سفرها إليه، وخليفةً في الأهل والولد، والأقارب ومَن تُحِبّ مِن أهل الوُدّ والحفاظ على العهد.
ورزقَنا الله توبة نصوحا قبل الممات، وحُسن الخِتام في هذه الحياة. وألحق الفقيدة بالنبيئين والصّدّيقين والشّهداء والصالحين في أعلى الدّرجات، وألْحَقَنا بها وبهم والكامِلات، وأمّهات المؤمنين الطّيبات الطّاهرات مؤمنين ومؤمنات على أفضل حال يُرضيه، ولأفضل مآل في جوار سيّدنا محمّد الشّفيع المـُشفَّع، وارِدين حوضه عليه أفضل سلام وأزكى صلاة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصّالحات.
الأستاذ منير ركراكي
فاس يوم الأحد 25 جمادى الأولى 1439هـ الموافق لــــ11 فبراير 2018م.
(كلمة تأبين متواضعة خَجولة في حقّ الفقيدة الحميدة السّعيدة الشهيدة للا “مليكة كَهيم”؛ المؤمنة الرّاحلة الرّاحلة مِن أرض فاس الفيحاء، وأصل سوس الـمِعطاء. تغمّدها الله برحمته، وأسكنها فسيح جنّته، وجعل البركة فيمَن تركَت دُخْرا لهذا الدّين. «لله ما أعطى وله ما أخذ». و إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.