نية وأمنية…ذكرى وذكريات

كلما أقبل علينا يوم 13 من دجنبر بتاريخ النّصارى إلاّ وهجمت عليّ نية وأمنية وذكرى وذكريات.
نية أن أتوب إلى الله توبة نصوحا لأحيي هذه الذكرى بما تستحقه من الإجلال والتعظيم، وأمنية أن نؤرّخ لحياتنا الخاصة وشؤوننا عامة بهجرة المسلمين لا بميلاد النصرانيين، واحدة من متعدد علينا أن نريدها ونسعى لها سعيها، ونضعها صوى ومنارات لاستبدال ما أُملِيَ علينا من نحلة الغالب لنعود إلى أصولنا المضيّعة. وأما الذكرى موعظتنا القرآن والموت، ناطقة وصامتة، حيث كان الإمام المجدد رحمه الله شديد الحرص على الاتعاظ بهما، كثيرا ما يوصي بذلك ويشهد عليه حضور مجالسه، وزور منزله، وقراء كتبه، ومشاهدين أشرطته وسامعيها، و متصفح مختاراته، ومتذوق أشعاره، ومتفقد رسائله ووصاياه رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه وجمعنا به في وسط الجِنان، ووسط الجِنان أعلاه.
القرآن ندبنا لتلاوته وسماعه وتجويده وتدبّره وعلمه وفهمه والتخلق به والدعوة إليه والتذكير به والجهاد به جهادا كبيرا، كما حثّنا على حفظه وتحفيظه لنكون مدرسة قرآنية متنقّلة عبر الأجيال. رحمه الله وخلّد ذكره في الصالحين المصلحين والصالحات المصلحات.
وأذكر أن ذكرى الموت وإن لم تغب عنه طيلة سني الحياة فإنها هيمنت عليه بشكل أكثر حضورا وتأثيرا في ما يقارب اثنتي عشرة سنة قبل الوفاة.
وقد زرته يوما رفقة من الأحبّة فقال: الليلة والليلة فقط انتهيت من كتابة وصيّتي عسى أن ينفعني الله بها قبل ومع أن ينفع من سيقرأها بعد منيّتي.
فسأل سائل منا بعينين دامعتين وصوت متحشرج: فهل هي وصية مودّع؟ وأجهش بالبكاء، فبكينا لبكائه ولم نك بعد قد فهمنا الإشارة ما وراء العبرات والعبارة، أجاب رحمه الله: أعمار المحبين لا تقاس بالأيام والشهور والأعوام، وإنما بمدى شوق العبد لمولاه، وأنا اشتقت إلى الله، رحمه الله وجعلنا على أثره وخطاه. بعد اثنتي عشرة سنة من كتابة الوصية ومن ذلك اليوم الرهيب، نُعيَت إلينا نفس الحبيب كنا قد تعوّدنا على خبر استعداده وإعداده اشتياقا إلى لقاء ربه، فلم يصدمنا الخبر، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، وقد هيّأنا لاستقبالها بِجَلد ورضى ما دامت من المولى قضاء وقدرا، كما أهّلنا لنرتقي في معاملة الموت على أنه حبيب جاء على شوق بوح حذيفي مائز، وعلى أنه أيضا فرحة: لا تقولي واكربتاه بل قولي وافرحتاه، اليوم نلقى الأحبّة محمدا وصحبه صوت بلالي ماتع مؤذن برحيل واقع ما له من دافع إلا إلى خير المطامع والمجامع والمراتع وصحبة خير مشفع شفيع شافع، ألم يقل رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء: اِدرأ البلاء بالصبر، والصبر بالرضى، والرضى بالشكر، وإن شئت فافرح.
والموت كان يذكّرنا به في كل وقت وحين، ويجعله لازمة أقواله وكتاباته إكثارا من ذكر هاذم اللذات، واستغفارا واستعدادا لما هو عن قريب آت، واستدراكا لما فات، وترقيقا لحاشية قلب ران عليه سود النكات، وإرهافا لحسّ صفَّقته الذنوب والخطيئات من حاصدات وخائنات وحالقات وما إليها من المشوشات. أمر آخر أدعى إلى التبصر والنظر أنه رحمه الله – وبيننا وبينهم الجنائز – كما قال الإمام أحمد قدّس الله سرّه، ونفع به إلى يوم لقاء الله، كان قد درّبنا على أن ندبّر شأن جماعتنا بأنفسنا مع تقويم وتوجيه منه من خلال ملاحظاته ومختاراته وأشرطته وتوجيهاته لزائريه وذوي قرباه، تذكيرا وتحذيرا لا سيطرة وتحجيرا، وتبشيرا لا تنفيرا، وتيسيرا لا تعسيرا، فعشنا بين ظهرانيه الصحبة في الجماعة كما عشنا الصحبة والجماعة، عقد قران، وعروة وثقى لا ينفصلان كما لا تنفصل السنّة عن القرآن، والعدل عن الإحسان، وحكمة العقل عن رحمة الجَنان.
رحم الله مرشدنا وأدام قبره روضة من روضات الجِنان. سأل الله أن يموت خميسا ليدفن جمعة فكذلك كان، وطلبنا أن تمضي مسيرة جنازته من شارع “محمد الخامس” فأبى المخزن إلا أن يجعلها تمرّ من شارع “النصر” وبين الشارعَيْن اختلاف مكان ومعان.
وصلّينا على الفقيد الحبيب في مسجد “السنّة” وهل كان رحمه الله إلاّ مبعوثا لتجديد الدين وإحياء سنّة سيّد المرسلين أو هكذا نحسب ولا نزكي أحدا على الله أيّا كان.
وعند وضعنا جثمانه الطاهر في مقصورة الإمام سمعنا تلاوة سورة ياسين من ورد الحزب في ذلك اليوم المشهود فكان في تلاوتها كرامة وبيان.
وكان مشهد الجنازة ناطقا بصدق وبرهان أن الفقيد ذكر كل لسان، ملء كل جَنان، ووراينا جثمانه في مقبرة الشهداء، وهل كان رحمه الله إلا شاهدا بالقسط قائما لله بالحق، سويا على صراط مستقيم لا متبعا لأي من سبل الشيطان، ولا واقعا في أي من حيل السلطان؟! دعَوْنا ورجعنا وأقمْنا حفل تأبين وعَشاء، واستحضرنا ما يقوله أهل العزاء لأهل البلاء: رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فقد كان رحيما رفيقا، رؤوفا شفيقا، وكان مفكّرا عميقا، وناقدا دقيقا، خيرا لأهله، متقنا لعمله، بمثابة الوالد المعلم لصحبه، صابرا على بلائه، شاكرا الله على أفضاله ونعمائه، قلبا سموحا، ولسانا فصيحا، وفكرا مليحا، ووجها صبوحا و منيبا توابا توبة نصوحا.
رحمه الله وجعلنا على أثره غير مبدّلين ولا مغيّرين. وعليكم بالإحسان للوالدين رعاية لحقوقها، وهل الوالدة إلا الجماعة التي ينبغي أن يكون لكل واحد منا عنوان فيها، وأن يكون حاملا لا محمولا، راعيا مسؤولا، مساهما لا كَلاًّ، نخلا لا فجلا، نحلا لا ذبابا، ولا فَراشا مختالا، خيلا لا ظهرا ذلولا لكل راكب مهينا ذليلا؟! ورعاية لحقوق المحاجير وهم الصغار الذين لم يصحبوا أباهم كفاية ولم يأخذوا عنه من العلم، والفهم غاية، ومن التوجيه علاجا ووقاية. وإياكم أن يدنّس بينكم دخيل فيفسد بينكم الود، فتتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم سُدى، وتؤتون الجدل بعد الهُدى. حافظوا على إرثه ولا تضيّعوه سفها وإهمالا، وتحريفا وتبديلا، واحفظوا وصيته واجعلوها على الحق دليلا، وزوروا قبره الحين بعد الحين، وترحموا واسترحموا عسى أن تعودوا بزيارتكم وقد رُزِقتم إقبالا ووُهِبتم قَبولا.
وكونوا أبناء صالحين داعين له بكرة وأصيلا، ملتمسين رضاه أقوالا وأفعالا وأحوالا، لأن رضاه من رضى رسول الله ورضى الله آنا ومآلا. واحفظوا ودّ أبيكم وصِلوا رحمه، واسألوا المولى أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والبركة فيكم بما حافظتم على هذه الأركان الأربعة: العبودية لله، واتباع رسول الله عليه صلاة الله وسلام الله، وصحبة أهل الله على كتاب الله وسنة رسول الله، والاجتماع على الله من أجل الانجماع عليه والجمع عليه بإذن الله، عسى أن تتخرجوا على يديه كما تمنى هو في صفحة من صفحات كتاب الإحسان فصل الرجال من مدرسة العدل والإحسان محسنين ومحسنات. على إمام المحسنين أزكى سلام وأفضل صلاة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.