الصيف ضيعت اللبن

تأتي الأيام تلو الأيام والأيام بيننا دول، وتتقاذفنا الشهور والأعوام.. حسن الله لنا العمل، وتتغير الفصول والمواسم.. و”الصيف ضيعت اللبن”، فهل يُضيع العاقل ما قد يكون بناه طيلة شهور وأعوام في تربية نفسه وتوطينها على الخير في لحظات ضعف ونزوات عابرة، فيسوء الخلق وتُنتهك المحارم و تُضيَّع الحقوق لا لشيء إلا لأن للصيف خصوصياته ومشاغله، ظرف طارئ في السنة ووضع خاص وحرارة مفرطة وموضات مغرية فلا ضير أن نجاريها عُريا ونتابعها تهتكا، والمحارب لا شك راجع شتاء إلى قلعته بنياشين وَلاَ مَجد. خطرات تزاحمت في ذهني وذكرتني بانتهاكات تكاد تكون مقترنة بهذا الفصل، اختراق لخصوصيات الغير، ضعف احترام المواعد، السهرات المضيعة للصلوات، الزيارات الطويلة بلا استئذان ولا سابق إنذار، التزاحم والشجار في محطات المواصلات، وإليكم بواحدة أحبائي من داخل مقصورات القطار، هذه المرة في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرؤوا يرحمكم الله.. وعوا.. ولا تلغوا، فهو مشهد قد يتكرر في أوقات الذروة لا قدر الله.
هالني و لبئس ما هالني ما رأته أم عيني في القطار خلال عودة من رحلة لصلة الرحم وعيادة المريض كما أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
تزاحُم وتدافُع وتدفُّق على مقصورات القطار لأمواج بشرية كرمها الخالق ولم يرحمها المكتب الوطني للسكك الحديدية، ولا راعى ظروف العطلة ولا حسن من أدائه، وإن تغنت إعلاناته بملايين زبنائه وجميل خِدماته، فتكدست الأكوام البشرية مجردة من إنسانيتها بين مسافر لم يذق لذة الجلوس لساعات رغم بُعد الشقة، وأم بنين متجولة في ممرات القطار مستجدية مكانا يسعها وأبناءها، وشيخ زمن يبحث عن فرصة للجلوس مكنته منها مروءة شاب منحه مجلسه، وآخرون تركوا حقائبهم وراء ظهورهم في سعي حثيث عن مقاعد شاغرة، وجماعات تريد الصعود وأخرى تريد النزول بعد أن أدركت مستقرها، وبين الصعود والنزول مشقات وعقبات تحتاج إلى اقتحام.
ضوضاء وضجيج وحرارة قاتلة وروائح كريهة تزكم الأنوف في أيام عطرة زكية نقية صافية، مع ضيوف ثقلاء من غير الجنس البشري يطلون على خشية بين الفينة والأخرى بحثا عن بقايا الطعام…ما ورث أجواء من الاحتقان ووضعا قابلا للاشتعال.
يغير قوة المشهد بين الفينة والأخرى صراخ وعويل…
فهل يا ترى ما الذي جرى؟
هذا مشهد من المشاهد…
عراك مرير وشجار خطير أسال الدماء… بين ثلاث من الإماء، حين رفعت إحداهن اليد عالية، ملوحة بصفعة مدوية على خد أخرى تحمل وليدها فأخذت الحمية ابنتها الكبرى وهي ترى أمها تضرب بالعدوان، استنكرت الأمر باللسان، فما كان من صاحبة الساعد القوي والصرخة المجلجلة إلا أن هشمت نظارتيها من على وجهها وضربت جبينها ضربة مبرحة بشاحن هاتف نقال …
لم تغن التدخلات ولا الاستعطافات عن ردها عن غيها، فاستمرت مكشرة مزمجرة إلى أن ظهرت الشرطة بعد لحظات بعد أن سالت الدماء الوافرات وازرورق الوجه بالكدمات…
كيف نتصور حدوث هذا؟
إلى أي قعر انحدرت أخلاقنا؟
كيف يمكن للعطلة أن تتحول إلى كابوس مزعج؟
هل نتحدث عن مروءات أفراد أو جماعات أو عن مسؤوليات؟
كيف نقنع من حضر هذا الواقع البئيس بعدُ من الأجانب بسمو أخلاقنا وسماحة ديننا ورفعة سجايانا وبأننا خير أمة أخرجت للناس؟
كيف نُعرف بني جِلدتنا بدينهم الذي لبه وأسه وجماع أمره الخلق القويم وحسن المعاملة؟
كيف نجعل الهمم تترقى لتكون بمعية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم لقاء الله تعالى بقوة أخلاقها وسمو معاملاتها؟
أليس آن الأوان لنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن؟
أليس آن الأوان أن نرتقي بأذواقنا وآدابنا إلى مقاربة سماحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمانة رسول الله عليه وسلم…
أما آن لأزمتنا الأخلاقية التي يجري سمّها في أوصال خير أمة أخرجت للناس أن تنجلي؟
أما آن الأوان لأن نتبصر طريقنا وسط الظلمات، ونثبت أمام كل التحديات، ونصون المسؤوليات، ونتجاوز الأزمات، متمثلين قول رب العباد سبحانه: خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين 2
هلا جعلنا من عطلنا فرصا للزيادة في العمل لا مِعولا لتقويض البناء؟
الخير في أمتنا إلى أن تقوم الساعة نعم، موعود يقيني راسخ نؤمن به إيماننا بهذا الدين، وعظمة هذا الدين، وخلود هذا الدين، ولكن هلاّ نبشنا عن مقومات خيريتنا وعضضنا عليها بالنواجذ؟
لتكن أخلاقنا ضياء أرواحنا ومصابيح أيامنا وأنشودة أعمارنا ومعارج آخرتنا.
لتكن حياتنا أخلاقا وأخلاقنا حياة.
وكل موسم وأنتم غانمون… وسالمون.