اليتم المغتصب

وأقف أمام صورة إيديا؛ شهيدة التهميش والإهمال؛ لأرى طفولة البلد الحزينة، تنطق بكل حروف القابض على الجمر، كي تحيي فينا البسمة نرسمها في عيون البراءة المقتولة كل يوم، بفنون القهر والفقر والجهل والإهمال.
رحلت عنا إيديا، و قد تركت فينا ألما يغوص في ذاكرة القهر المغلوبة ونتساءل والدمعة تخنق الحناجر، أي طريق تسلكه الطفولة بوطننا؟ طريق مليء بالأشواك، ملطخ بدماء أطفالنا، ضحايا التهميش… يغادرنا ملاك تلو الآخر، فكما سبق ورحلت هبة في مستهل هذه السنة بسبب المماطلة والإهمال الطبي، تلتها المسكينة إيديا… ولائحة ضحايا الطفولة طويلة، الذين يستشهدون وراء الكواليس… وخلف الأضواء… لأسباب مختلفة.
فمن يتحمل وزر هذه الطفولة المنكوبة، المقهورة… المحرومة من أدنى ظروف العيش الكريم؟
سؤال استوقفني … وتنفست الصعداء… وتذكرت حديث سيد الخلق؛ رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: “كلكم راع، و كلكم مسئول عن رعيته…” متفق عليه، أين هم مسئولو الذلة من هذا الحديث العظيم ؟ الذي دفعني إلى استقراء عدد من كتب إمام مجدد ملم بالقضية كاملة حيث قال: فعلينا رجالا ونساء أن تكون الأسرة المسلمة على اتصال واستمداد بالأسرة التربوية التي تحضن الشباب، ولا يفوتنا في نفس الوقت أن نراقب سير الدولة. وللدولة والتقنية والتدبير رجال الخبرة والتجربة. علينا أن نبحث عن هؤلاء الأقوياء، نضعهم تحت إمرة الأمناء على أمر الله. لنفرغ جهدنا أساسا على بناء الرجولة النورانية من قواعدها، من بيوت الله المتصلة عضويا ببيوت المسلمين، ومدارس المسلمين، ومؤسسات المسلمين، وإعلام المسلمين، وحياة مجتمع المسلمين) 4
فموت إيديا صفعة أخرى ليستفيق المتغنون بأنشودة -الإصلاح- من غفلتهم… أي إصلاح و الطفولة تشرد كل يوم؟ أي استقرار و الطفولة تقتل كل يوم؟ أي بلد هذا الذي يبرئ ذمة مسئوليه من أرواح أطفال، ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا، و عاشوا ،و ماتوا وسط سرادقه المتصدع؟؟؟
في مغربنا العتيق… تعاني الطفولة من اليتم.. فليس اليتيم من فقد أحد والديه فقط، بل اليتيم أيضا من فقد حب وطنه في قلبه… من فقد وطنه الأم: فهذا طفل يتيم محروم من بيت يحضنه، يستره… يتخذ من الشارع ملاذا، يلتحف الفضاء ويفترش الأرض… يعيش مشردا فيها يقتات بدريهمات كسبها تسولا أو سرقة… لأن والداه المستضعفان لم يستطيعا توفير لقمة عيش له تدفئ جوفه، طفل مصيره إما مغتصب من طرف النفوس الدنيئة و الخبيثة، أو مدمن للمخدرات الصلبة.. ويكفينا فخرا بالخزي أنه في سنة 2015 تعرض أكثر من 935 طفل لاعتداء جنسي 5 … و يبقى الرقم نسبيا، فما خفي أعظم، ما دامت مثل هذه المواضيع مازالت تشكل طابوهات يسودها التكتم و الصمت ، خصوصا في الأحياء و الأوساط الفقيرة..
واليتم في وطني أصنافه متعددة كل يلبس فيه حسب مقياسه.
فهذا طفل يتيم لأنه محروم من مدرسة محترمة يتعلم فيها… يقطع كيلومترات ليصل منهك القوى إلى شبه قسم، يحارب فيه أمية الأبجدية، قسم يسبح في بركته شتاء ويصطاد من حشراته صيفا… يكاد لا يفقه من قول المعلم حرفا… وهو سارح بتفكيره في مشاق طريق العودة، إلى بيته الطيني في قمة الجبل من الضفة الأخرى…
ويتيم آخر محروم من فضاءات اللعب واللهو والتسلية… يفتقد لمراكز ونوادي لصقل موهبته المتفجرة… فكيف للمسكين أن يدفع ثمن ملاعب باهظة وهو الذي لا يعرف من الأكل سوى خبز خاف وكأس شاي ؟
و بجانبه طفل آخر محروم من حقه في الإسعاف والتطبيب… يقطع مسافات طوال ليصل مستوصفا كأنه مستودع أموات… النظرة فيه تدمي القلب… رائحته تزكم الأنوف… مستوصف لا يتوفر من الأجهزة والمعدات والطاقات البشرية سوى على الاسم في أعلى البناية…
كم أنت يتيم يا وطني…عجوز يحتضر… يسيرك نظام فهيه… و يلفك ناهبون يستنزفون ثرواتك الكثيرة …
ما يحتاجه أطفالنا يا وطني ليس دواء للعلاج بل وقاية لتجنب المرض… وليس دراجة للوصول إلى المدرسة بل مدرسة قريبة من البيت… فيكفينا ضحكا على الذقون… ومشاريع لا تغني ولا تسمن من جوع..
وأختم بكلمات ذهبية تعزف على أوتار القلب وتضمد الجرح الغائر للإمام المجدد رحمه الله : في مجتمع تجديد الدين و تعظيم حرمات الله، لا يكفي أن نضع قطعة نقدية في راحة طفل تعس لننعم براحة الضمير، كما لا يكفي أن نبني مأوى للأيتام تلمع حيطانه وتديره فرقة من الموظفين المأجورين، لأن واجب رجل العقيدة وامرأة الإيمان نحو الطفولة المعذبة، لا يتم إلا بالتجند الشخصي ونكران الذات لخدمة المستضعفين، والعناية اليومية بالضعفاء والمحرومين لا تكون إلا ببذل الجهد والمال والوقت) 6 .
فارفعوا الهمم… وشمروا عن سواعدكم… فالتغيير يبدأ من هنا…
[2] حسب إحصائيات الائتلاف المغربي ضد الاعتداء الجنسي على الأطفال.
[3] عبد السلام ياسين: كتاب الإسلام و الحداثة -الطفولة التعسة- ص 158.
[4] عبد السلام ياسين: كتاب سنة الله -ناموس الأسباب- 275.
[5] حسب إحصائيات الائتلاف المغربي ضد الاعتداء الجنسي على الأطفال.
[6] عبد السلام ياسين: كتاب الإسلام و الحداثة -الطفولة التعسة- ص 158.