من رسائل حسناء “شهر الغفران”

الحمد لله الغفور الرحيم والصلاة والسلام على من كان استغفاره في اليوم أكثر من سبعين، قدوتنا وحبيبنا وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه وحزبه.
أختي الفاضلة
أكتب رسالتي هاته لأبارك لك الشهر العظيم، شهر التوبة والغفران شهر الذكر والقرآن. وقد اخترت التوبة والاستغفار موضوعا لرسالتي فليس هناك من حديث يليق بمقام رمضان سوى الحديث عن اغتنام فرصة هذا الشهر العظيم للتعرض لنفحاته والنيل من أجره وبركاته، شهر ينادي فيه مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، وتصفد فيه الشياطين، وتفتح أبواب الرحمة وتغلق أبواب العذاب. شهر فيه ليلة خير من ألف شهر تنزل فيها الملائكة والروح جبريل عليه السلام.
أختي الفاضلة
قد يسود في ذهن الكثيرين أن التوبة لا تكون إلا من الكبائر، فأنت حينما تتوجه لأخيك المسلم بقولك “تب إلى الله” قد تأخذه عزة النفس فيقول: وماذا جنيت لأتوب؟ أنا لم أزن؟ ولم أقتل؟ ولم آكل حراما لأتوب، فأنا أصلي فريضتي وأصوم شهري ولا أؤذي الناس.
التوبة في الإسلام أولا وثانيا وأخيرا، ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة وهو المعصوم، كان يستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة. والشيطان لجهلنا يحجب عنا فرص التقرب إلى الله عز وجل، لنتوب إلى الله عن تقصيرنا في حقه، نستغفره عن غفلتنا، نتوب إليه أي نعود إليه ونرتمـي في حضنـه. قـال صلى الله عليه وسلـم “لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار”. كم يفرح الله تعالى بالذل والانكسار بين يديه حين نقف أمامه عز وجل نطرق باب مغفرته ونرجو رحمته، حيث أخبرنا في كتابه أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان 4 ويعلمنا من سبقنا من العلماء والأولياء أن الباب الذي لا زحام عليه هو باب الذل والانكسار بين يدي الله عز وجل، من هذا الباب يمكن أن نسلك إلى الله .
أختي الفاضلة
لعلنا في زماننا هذا بما ابتلانا الله فيه من فتن أحوج ما نكون إلى التوبة والاستغفار مرات عديدة في اليوم. ولرحمة الله بنا، جعل لنا محطات يومية وأسبوعية وسنوية لنعود إليه ونتذكره ونتعرض لخيره ونستغفره ونتوب إليه. وها نحن في رمضان، هذا الشهر الذي يطل علينا كل سنة محملا بخيره، لنغنم ونعزم ونتصدى للشيطان ونكسر قيود النفس الأمارة بالسوء، ونخلو بأنفسنا مع الله عز وجل نحاسبها، قال سيدنا عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكما قبل أن توزنوا)، نغتنم الفرصة لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن وختمه وحفظه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن هذه القلوب لتصدأ، وإن جلاءها قراءة القرآن، وذكر الموت وحضور مجالس الذكر”. يقول سيدي عبد القادر الجيلاني في شرحه لهذا الحديث: القلب يصدأ، فإن تداركه صاحبه بما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا انتقل إلى السواد). وصفة هي شفاء لداء صدأ القلوب من الطبيب النبي صلى الله عليه وسلم: قراءة القرآن + تذكر دائم للموت + ذكر = شفاء من صدأ القلب وتجديد للإيمان في هذا الشهر العظيم.
ولأنه عظيم، تكتظ المساجد، ويتغير حال الشارع فتجد طابع الجد والخشوع غالبا على الناس، لا لأنهم عباد رمضان كما يقول الناس العوام، ولكن لأن الله جعل لهذا الشهر هبة في نفوس المسلمين، فهم ينقادون تلقائيا للخير، فتجود أنفسهم، وتتجرد من شحها وبخلها في كل شيء، في الإنفاق المادي، وأيضا في العبادة والقرب من الله. الله تعالى خلق هذا الشهر وأراد أن يرى الناس فيه على هذا الحال متعرضين لخيره وصفائه ونقائه. ويزداد التدافع على الخير في العشر الأواخر منه، عسى أن يدرك الناس أجر ليلة القدر اقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم الذي كان يعتكف المسجد في العشر الأواخر ويعتزل النساء.
أختي الفاضلة
ولأن حديثي معك عن الاستغفار والتوبة ولعظيم قدر التوبة والاستغفار عند الله فقد علمنا سبحانه أن نختار الأوقات، ففي كل ليلة في رمضان وفي غير رمضان، ينزل الله عز وجل بجلال قدره، إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له، قال تعالى والمستغفرين بالأسحار. وقت السحر أفضل وقت للسجود لله تعالى والدعاء والاستغفار، نعود أنفسنا في رمضان على تلبية نداء الحق سبحانه في هذا الوقت المبارك، ليسهل علينا بعد ذلك تلبية النداء الرباني طيلة السنة، فنحن نتلهف لليلة القدر لأن الملائكة تنزل ونغفل عن وقت ثمين ينزل الخالق عز وجل ينتظر دعاءنا ليستجيب واستغفارنا وتوبتنا وسؤالنا ليعطي.
أختي الفاضلة
بصدق ليس هناك لحظة أعظم من سكون وقت السحر، للخلوة مع الله عز وجل، للبكاء عليه وسؤاله، فمن ذاق لذة الأنس بالله عز وجل استوحش عمن سواه. وهناك منحة أسبوعية، أكرم الله بها أمة حبيبه صلى الله عليه وسلم، إنه يوم الجمعة، يوم عظيم فيه ساعة عظيمة تستجاب فيها الدعوات، ومنحه كثيرة لا يسعنا إلا أن نحمد الله عز وجل عليها، فالصلاة إلى الصلاة مغفرة لما بينهما، وبالوضوء تنزل الذنوب، والخطوات إلى المسجد ترفع بها الحسنات وتمحى السيئات، ومع مصافحة المسلم لأخيه تحاث الذنوب كأوراق الشجر، ولا يسعنا المقام لتعداد المناسبات والعبادات والمعاملات التي تكون فرصة لمغفرة الذنوب.
أختي الفاضلة
لا تماطل في التوبة خاصة في هذا الشهر ولا تأخر عن قبول منح الله عز وجل، فلا نتكاسل، فالكسل هنا من الشيطان، ولا نسوف ولا يغرنا طول الأمل حتى لا نحرم الأجر والتواب بل نعزم ونتوكل ونتحدى هواجس أنفسنا ونقبل في هذا الشهر الكريم على المولى، إقبال المؤمنين المحبين المتشوقين للقائه وهو عنهم راض.
قال تعالى سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين 5 . المسارعة إلى المغفرة هكذا يعلمنا القرآن الكريم، فإن كانت المسارعة إلى التوبة والمغفرة واجبة طيلة السنة، فهي في رمضان أوجب، وعلى قدر لهفتك وشوقك إلى التقرب من الله عز وجل يكون عطاؤه وقربه منك، قال صلى الله عليه وسلم في حديث قدسـي: “من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا”. هذا قدر عطائه لمن تاب بعد غفلة، فما بالك بمن يحافظ على فرضه ويصون عرضه ثم يتوب إلى الله ويستغفره.
يشتاق الله عز وجل لأولئك الغافلين عنه، غفلة قد تكون لمتاع الدنيا وزينتها، وقد تكون عن كسل وتراخ منا وطول أمل واستبعاد دنو الأجل، وقد تكون غفلة عن جهل، كيفما كانت غفلتنا، فإن الله وعد بالمغفرة لمن استغفر وتاب عن ذنوبه توبة صادقة خالصة لوجه الله تعالى، يجب الله بها ما فات، ويصبح المؤمن بعدها كيوم ولدته أمه. التوبة في ديننا هي البداية وهي الوسط وهي النهاية، تطهر القلب من كبريائه وريائه وعجبه ونفاقه ويتواضع لله الخالق.
فتأملي معي أختي هذا الحديث القدسي، لتعلمي أن الله واسع المغفرة ميسر طريقها لمن أراد، واضع شروطها، فهي تكون بالدعاء فهو العبادة، وتكون بالرجاء فهو الذل والانكسار والطمع في رحمة الله، وتكون بالاستغفار، وصيغه عديدة في سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وتكون بتوحيد الله وعدم الشرك به، عن أنس بن مالك رضي الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتي لا تشرك به شيئا لأتيك بقرابها مغفرة… 6 .
وختاما أدعو الله أن يجعل أول هذا الشهر العظيم توبة ووسطه مغفرة وآخره عتقا من النار لنا ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وصل اللهم وسلم في البدء والختام على حبيبنا محمد خير من صلى واستغفر وصام.
[2] ال عمران الآية133.
[3] رواه الترمذي.
[4] البقرة 186.
[5] ال عمران الآية133.
[6] رواه الترمذي.