هنيئا لك سيدتي بما كنت…

ذهبت امرأة إلى غاندي الحكيم تلتمس النصح والتوجيه لابنها الذي كان يسرف في تناول السكّر على الرغم من إصابته بداء السكري المزمن وتدهور صحته، فسألها أن تعود بعد أسبوعين ففعلت، وإذا بها بين يديه، نظر إلى ابنها بتركيز في عينيه ثم قال له: “لا تعد أبدا إلى أكل السكر” تعجبت الأم من هذا الفعل وقالت: “لِم انتظار كل هذا الوقت؟ ألم يكن بوسعك أن تقول توجيهك هذا في المرة الفائتة؟ قال لا، لأني أنا الآخر كنت حينئذ مفرطا في تناول السكر”!
تذكرت هذه الحكمة البشرية، وأنا أجوب بعيني الفؤاد في حياة امرأة غمرها الإيمان، فأبت أن تكون إلا لله، متشبعة بأمر الله تعالى الذي لا يقبل من العمل إلا أخلصه ويحب أدومه، فجمعت بينهما في روحانية عظيمة وتبتل عميق، صدق في العطاء، وديمومة في الأداء، وبساطة غالبة ورفق وحنو، فهمت سر العبور وحقيقة المرور، فهبت ملبية نداء مليكها وشقت سبيلها في طريق المعرفة به تعالى بقدم ثابتة وهمة عالية وعزم أكيد.
لا تفارق البسمة وجهها وهي تستقبلك في بيت عامر على الدوام، عامر بالزوار، وعامر بالمحبة وعامر بالإيمان، تستشرفه فإذا بك تحلق في عوالم من السكينة والطمأنينة، وكأنك في مسجد يذكر فيه اسم الله. حقيق به أيها السادة والسيدات أن يكون، وهو طاهر بطهارة ساكنيه وقلوبهم الكبيرة، طاهر بألسنهم التي لا تفتر عن ذكر الله، طاهر بنظافة أركانه، طاهر بتهجد الليل وسجود النهار، طاهر بطهارة ألسن لا تعرف إلا الحق وقلوب لا ترضى عن وجه الله محيدا.
نهر ترار من الصفاء والعطاء، لا يقولوا إلا ليفعلوا ولا يتحدثوا إلا ليصدقوا، ولا يعاهدوا إلا ليوفوا، تشربوا الخير كابرا عن كابر، وتعودوه حتى صار لهم جبلة، تربوا على المعاني الراقية والأخلاق العالية، وتشربوا المحبة من قلوب مرفرفة في سماء المعرفة راسخة في أرض العلوم. كلهم في الحق رجالا…تلك الرجولة الإيمانية التي كتبها الله لأهل الصدق في الاتباع.
قد يظن الذي لا حظ له من معاني التحاب أنها شهادة قلب كلم بالفراق، فانطلق منه اللسان راثيا… كلا ورب الأرباب، هي شهادة الصدق فيمن خبرتهم منذ زمن كنت أنا الأخرى باحثة عن ملاذ، والباحث من شيمه القياس والموازنة والمقارنة بين ما يطلب وما يهفو إليه وما يجده ماثلا بين يديه.
تعلمت سادتي على أيديكم الكثير…
تعلمت أن الكتاب الكريم والسنة الشريفة ليسا كلاما يتلى بل فعلا يطبق في أدق تفاصيله، بل ليس كلاما يحفظ والقلب من معرفة الله وطاعته خواء.
تعلمت أن المنهاج ليس كلاما كتب بل هو سلوك تمثلتموه.
تعلمت أن الدين ليس هرطقة وفقها يضيق على الأمة بفتاوى يجوز ولا يجوز بعيدا عن الفهم الراسخ عن الله ورسوله، بعيدا عن فقه الواقع وملابساته.
تعلمت أن الحجاب ليس خرقة توضع على الرأس وفي القلب مثاقيل النفاق.
تعلمت أن المحبة ليست تمثلات بل مشاعر تمتحن في مواطن الصدق والاتباع.
تعلمت أن الصفاء وعاء العطاء وأن الاستمداد يكون بقدر التعظيم، وأن الانجماع يكون بترك الأنا.
تعلمت أن العنف لا يفيد، وأن الرحمة بالخلق والرفق بهم من أعظم القربات.
تعلمت حسن الظن وتعظيم خلق الله.
تعلمت أن تحرير المرأة لا يكون إلا بتحويلها من واقع جعل منها سلعة تباع في أسواق النخاسة بأزهد الأثمان، أو قعيدة بيت بين الجدران، لا خبر لها عن الله والدار الآخرة، لا خبر لها عن حقها في معرفة الله ربها الديان.
تعلمت أن أحب بصدق وأن أعمل بتفان وأن أبر بالأهل والولدان والأقارب والجيران.
تعلمت أن أكون، وكيف أكون. تعلمت ألا أخون، تعلمت التاريخ وجغرافيا الأوطان
تعلمت الدين… تعلمت الإسلام… تعلمت الإيمان… تعلمت كيف أهفو للإحسان.
تعلمت كيف أحيا في الدنيا بعزة وألا أشرب بذل ماء الحياة.
اعذروني سادتي فقد تعلمت منكم ما لم أفقهه من جنبات الكراريس وظاهر اللوح وهوامش الكتب.
هنيئا لكم سادتي بما أنتم وبما كنتم، وارقدي سيدتي البارة بسلام في مثواك الذي عزموا حرمانك منه فشاءت إرادة المولى إلا أن تحقق ما تعلقت همتك به، كان موكبك سيمر هادئا بسيطا كما كنت، لكن شاء الله ألا تخرجي من أرض الابتلاء إلى عوالم البقاء، إلا بزفة شهدها العالم وتحدث عنها الكبير والصغير، “ورفعنا لك ذكرك”، صدقت الله فصدقك
كنت شاهدة عصرك لعقود مضت خبرت فيها الظلم والسجن والحصار لشق نفسك وحبك الإمام عبد السلام، ذقت مرارة الظلم كؤوسا متتالية بنفس رضية صابرة، وخرجت من دنيا الخلائق بعد أن برهنت للناس بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن الحقوق في دولة الحق والقانون مهضومة، والحريات ملغومة مزعومة، تحابي من تشاء وتجافي من تشاء، تسكن من تشاء القصور وفاره الدور، وتمنع من تشاء تربة القبور.
هنيئا لك سيدتي بما كنت، فقد برهنت للعالم أن أرحام المسلمات لا تزال بخير وتستطيع أن تضع نساء من عيارك الثقيل، وأن على الرغم من هذا الزمن العصيب، لا تزال الطائفة الظاهرة على الحق التي لا يضرها من خذلها إلى أن يأتي أمر الله.
قدمت للنساء نموذجا حيا للاقتداء والاحتذاء، نموذج امرأة ليست ككل النساء، امرأة أحببناها إلى حد النخاع، امرأة فاضلة صالحة، أريبة لبيبة، امرأة كانت أما للجماعة وآوية لدعوتها…
رحمك الله وزوجك الإمام عبد السلام ياسين وكل موتى المسلمين، وجمعكما في مقعد صدق بجوار النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.