معالم في السلوك إلى الله تعالى 5

الذكر
سبق المفردون
أضرب صفحا عن أوهام الواهمين وأنظر في حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يوم قال لأصحابه رضي الله عنهم وهم في سفر جهادي في طريق مكة “سبق المفردون!”“قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”.
وكان صلى الله عليه وسلم يوم قالها قرب جبل جمدان، لم تكن رحلته للراحة والمتعة بل كانت كل تحركاته صلى الله عليه وسلم وهو على رأس تجريدة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تحفزا لجهاد يتلو جهادا في حركة دائبة.
فما كان لرسول مجاهد كما كان محمد صلى الله عليه وسلم أن تنسيه وجهته القتالية مهمته التربوية. الذكر لمجاهدة النفس والقتال لمجاهدة الكفر.
فلئن جرد الذاكرون من أجيال الصوفية الكرام قربة الذكر عن فريضة الجهاد فذلك للفتنة التي كانوا يتحاشون إيقاظها بين المسلمين منذ أصلت السيف على رقاب المسلمين بعض من نسي ذكر الله وانتهك حرمات الله في حروب بين أهل الملة، طوائف زاغت واستحلت دماء المسلمين فارتكبت بذلك أفظع الفظائع .
فعن سفك الدماء البريئة عدل الصوفية الكرام الذاكرون الله المستهترون بذكره، مخافة أن يلغوا في اللجج الدموية التي ولغ فيها غيرهم.
هل كانت قسمة الصوفية الذاكرين الله كثيرا قسمة ضيزى حين عكفوا أعمارا طويلة على ذكر الله؟ كلا، بل كانوا بتطهرهم وتزكيتهم لأنفسهم وملازمتهم حلق الذكر في الخلوات والجلوات يطلبون الدرجات العليا عند الله عز وجل كما طلب ذلك فقراء المهاجرين عندما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا “ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم! فقال وما ذاك؟ فقال يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ “فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل دُبُرَ الصلوات.
وكذلك كانت أساليب التعليم والتعلم عند معلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فمرة يجيئ فقراء المهاجرين يسألونه عن دينهم وعما ينيلهم الدرجات العلى عند الله كما قرأنا وطورا يفاتحهم هو صلى الله عليه وسلم في شأن من شؤون دنياهم وآخرتهم في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخيرٌ لكم من الوَرِقِ والذهب، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله”.
ويتعهد صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم والأمة من بعدهم بنفائس النصائح يسألونه يا رسول الله! ما المفردون؟ يستفسرونه عن قوله سبق المفردين فيقول عليه الصلاة والسلام: “المستهترون بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم”. الاستهتار هو الوَلوع بالشيء والإفراط فيه.
وينوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب تعليمه ويضرب في ذلك الأمثال في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثلُ الحي والميت”.
ما كان أحرص الصحابة رضي الله عنهم عن تعلم ما ينفعهم عند الله عز وجل يسألون رسوله صلى الله عليه وسلم ويحتفظون لنا جزاهم الله عنا خيرا بالجواب النبوي المتضمن حكمة وهدى. من ذلك ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل : أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال: “الذاكرون الله كثيرا”. قيل: ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: “لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة”.
وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي أهل المسجد خير؟ قال: “أكثرهم ذكراً لله عز وجل”. قيل: أي الجنازة خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”. قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل” قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”. قيل: وأي العُبَّاد خير؟ قال: “أكثرهم ذكرا لله عز وجل”.
لا جرم أن يمتثل الصحابة رضي الله عنهم ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الصادقون الجادون السائرون على هدى من الله ورسوله .
فأبو بكر رضي الله عنه يقول: ذهب الذاكرون بالخير كله). كلمة جامعة نافعة ممن سمع وأطاع وبلغ كما سمع وأطاع وبلغ أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه حين أتاه رجل يسأله الوصية، قال له اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومَدَرَة. فقال: زدني. فقال: اذكر الله تعالى حتى يحسبك الناس من ذكر الله تعالى مجنونا).
ما كان لأبي مسلم رضي الله عنه وإخوانه من الصحابة أن يحيدوا عن وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكد عليهم قائلا: “أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون”. فكان الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون حرص الصحابة الذين أدركوهم على الذكر ومواظبتهم عليه واستيصاؤهم به.
أبو مسلم يكثر ذكر الله تعالى فرآه رجل فقال للحاضرين متعجبا أمجنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم فقال: ليس هذا بالجنون يا ابن أخي، ولكن هذا ذو الجُنون).
الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك بعدهم مسلكهم يحرصون أشد الحرص على ذكر الله في الخلاء والملاء. كيف لا وهم يقرأون الحديث القدسي الذي رواه عن الله عز وجل حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم. وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا. وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”.
لا أبلغ من هذا البيان الذي يتنزل بالمولى سبحانه وتعالى فيصور للعباد بالمقاسات الحسية القرب من الله عز وجل وكأنها مسافات تطوى. وما عبارة السلوك إلى الله والسير إلى الله إلا تعبير مجازي للتقدم النفسي القلبي يطوي به مريد القرب من الله عز وجل ما يفصله عن الحضور مع الله وذكره والتبتل والاستذكار من صحاري الغفلة واللهو والاشتغال بزينة الحياة الدنيا ومباهجها الخداعة.