زوج بلا شارب

ذات ليل… وبعدما انتهت من ترتيب البيت وتنظيفه، وبعدما اطمأنت على أطفالها النيام وزوجها المتظاهر بالنوم -عله يختبئ في ظلمة غرفته من واقع سلبه نخوته قبل أن يسلبه قدميه ويرديه قعيدا- جلست بجسدها المنهك وقلبها المتعب على نفس الطاولة التي تضرب لها موعدا كل ليلة كي تحتسي على شرف المرارة فنجانا من الوجع المسائي، الذي جعل منها امرأة في أرذل العمر وهي التي لاتزال في مقتبله، امرأة متعددة التخصصات جبرا وقهرا: فهي زوجة-مع إيقاف التنفيذ- وأم هزيلة منهكة وربة أسرة تسعى على رزق عيالها وممرضة لمريضها ومدرسة لأطفالها وخادم البيت ومقتصده و… جلباب تتجاذبه كل الأطراف وهي المثقلة المرهقة المستهلكة كخرقة بالية، خالط الوجع تجاعيد وجهها فأضحى ينقش على محياها نقشا إغريقيا قديما يزحف على جراحها كلما تقادمت السنين وكأنها لعمري امرأة أتت من كوكب الحزن بصوتها المبحوح ذاك الذي جرحته مرارة الأيام، فأصبحت تلك البحة ملازمة لها كندبة جرح أبدي ينزف بداخلها دون توقف كلما نطقت المسكينة صمتا.
تلك الشابة العجوز التي اتخذت من الصبر عباءة تستر بها عورات أيامها، ومن الكبرياء ابتسامة شاحبة ترسمها على شفاهها المتشققة استعلاءا على ألم يكاد يطوي ظهرها ويقسمه.
على تلك الطاولة، جلست تحذق في سقف ذاكرتها المنخور بنظرة متعبة ومثقلة بدموع المرارة والقهر التي تذرفها تباعا لتتساقط على ناصية الطاولة كما تساقط على رصيف سنينها العجاف أملها العقيم في عيش كريم، متعجبة كيف دارت اﻷيام دورتها اللعينة الظالمة لتجعل من دلالها وأنوثتها… زوجا بلا شارب.
تساءلت ككل مستضعف محروم عن عدل مفقود مطرود من على وجه هاته الأرض، تساءلت عن عدل الخبز وعدل الكرامة وعدل العمل… عن عدل ينقذ صغارها من طفولة بئيسة يائسة ويضمن لزوجها تعويضا عن نخوته قبل التعويض عن إصابته، عن عدل يعطيها مسكنا كريما بدلا من “الشبر” المتهاوي الذي تسكنه، عدل يضمن لها حق أمومتها، حق أنوثتها… عدل يضمن لها حق إنسانيتها…
فتنهدت المسكينة بصوتها المبحوح تنهيدة من أعماق خافقها المجروح، ثم قامت متثاقلة لتتمدد فوق فراش مرارتها متوسدة توجعاتها وجراحاتها، تتهيأ لبداية يوم “قديم” قد خبرت تفاصيله وحفظت ملامح قسوته عن ظهر قهر… عن ظهر جبر… عن ظهر ظلم…