في ذكرى الخامس والعشرين نونبر

بينما يخلد العالم ذكرى اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، نقف جميعا للتأمل في بعض الأرقام والاحصاءات المرتبطة بالظاهرة، لنجد أن النتائج صارخة وتنبئ باستفحال خطير يزداد عاما بعد عام، في مجتمعات الألفية الثالثة، ألفية الحضارة الانسانية وعولمة الحقوق ومبادئ الديموقراطية. ولنا أن نسائل أنفسنا ونسائل الغير عن موطن الخلل، ألم يرتبط في أذهاننا أن العنف له علاقة بالمجتمعات البدائية التي لم تصل بعد الى فكرة العيش المشترك، ألم يرتبط في أذهاننا بأن له ارتباط وثيق بقلة الوعي المعرفي الذي من شأنه إضعاف الإرادة وتعطيل العقل وتحرير الطاقات السلبية الموجهة ضد الأخر، لكن الوقائع والأرقام تكذب كل ذلك لنجد أن الدول التي تحتل قمة الحضارة المادية المعاشية هي نفسها التي تتصدر قائمة العنف عموما والعنف ضد المرأة على وجه الخصوص.
في تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية نشره “اتحاد الجمعيات الخيرية القدس 2011” تأتي بعض الأرقام كالتالي: ففي إسبانيا مثلا تقتل امرأة واحدة كل خمسة أيام على يد شريكها، وفي المملكة المتحدة تقتل امرأتين أسبوعيا، وفي روسيا تتعرض 36000 امرأة للضرب يوميا على يد أزواجهن أو شركائهن، وفي الولايات المتحدة تتعرض امرأة للضرب كل 15 ثانية، وتتعرض امرأة للاغتصاب كل 90 ثانية، وفي فرنسا تتعرض 25000 امرأة للاغتصاب سنويا. ما الذي يحدث؟ ألم تدع هذه الحضارات أنها السباقة لتحرير العهود والمواثيق التي تحترم الإنسان، وتنبذ العنف وكل مظاهر الإرهاب، بل هي الحضارات نفسها التي حررت المرأة من وطأة تقاليد المجتمعات المتخلفة، والإيديولوجيات الرجعية الظلامية التي تحتقر المرأة وتحط من شأنها، ولا تعتبرها إلا كائنا من الدرجة الثانية، إلى غير ذلك من المقولات التي قد تصح مبنى وتغيب مضمونا. فمما يريدون تحريرها؟ ثم في ماذا تستثمر هذه الحرية ولأي أغراض توظف إن كان العنف ضدها سمة المجتمع، والعنف أعلى درجات الإهانة والتحقير.
ومما لا شك فيه أن الظاهرة لا تقتصر على المجتمعات الغربية وحسب، بل هي سمة معولمة، ويجب أن نعترف أنها بدأت تتنامى بشكل يقرع نواقيس الخطر في مجتمعاتنا العربية عموما، وفي المجتمع المغربي على وجه الخصوص. وفي ظل التردي العام لأوضاع النساء تطل قضية العنف كأبرز مظهر من مظاهر الانتهاك الصارخ لحقوقها المادية والمعنوية بوصفها كيانا مجتمعيا له كامل حقوق المواطنة، هذه الحقوق تداس تحت وطأة العقلية الذكورية التي تنتقص من كفاءة المرأة ومن أهليتها في غياب شبه كامل للوعي بأهمية أدوارها الإنتاجية، بل وفي إنكار لهذه الأدوار في أحيان كثيرة، وتداس باسم الدين، تجنيا على دين أنصف المرأة، لإكساب الظلم الممارس عليها شرعية وغطاء، كل ذلك الموروث الثقافي المشبع بثقل العادات والتقاليد والمستند الى فقه منحبس توقف عنده الاجتهاد الشرعي عصورا، كل ذلك كرس عند المرأة ذاتها ذهنية الإذعان والقبول، وأضعف إرادتها، فبات العنف من الثابت الاجتماعي المؤصل له “شرعا”.
وبتشعب أسباب العنف، وتعدد أنواعه وممارسيه وتعدد خلفياتهم ، تصبح الضرورة ملحة الى حوار جاد ومسؤول لتعميق النقاش حول الظاهرة، للوقوف على الأسباب الحقيقية قصد الولوج الى مقاربة الحل الشامل، والأكيد أنها لاتقف عند المدخل القانوني وحسب، على أهميته، فتحديث القوانين وتبسيط المساطر وتحريرها من التسلط الذكوري المنافي لمبدأ الحق العام، كل هذا من شأنه دون شك أن يشكل الرادع للتجاوزات والخروقات المحتملة، لكن المدخل التربوي يظل الأساس لارتباطه بتغيير عقلية المجتمع وتصحيح نظرته المغلوطة والتي تنسب عادة إلى الدين. فلابد للمجتمع المسلم إذن من الرجوع إلى أصوله الثابتة لاستخلاص اجتهاد جماعي مستقل ينظر للقضايا المعاصرة للمرأة بنفس تجديدي انطلاقا من المقاصد العليا لشريعة العدل أساس بنائها، ورجوعا إلى عهد التنزيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستنباط الأحكام في الأحداث وفقا لممارسة النص الشرعي في عهد التنزيل، لا استنادا إلى فقه منحبس توقف في زمن من الأزمنة له ظروفه ودواعيه التي لا تلزمنا في عصرنا الحديث. فقد ندب الشرع إلى الاجتهاد صيانة لأصول الدين الصالح لجميع الأزمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تم التضييق على المرأة بسبب التقليد الفقهي بذل التطلع الى أعالي التاريخ لبناء اجتهاد صحيح يفهم النص على ضوء فهم الصحابة له وممارستهم له في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كرم المرأة وأعلى من شأنها واحترم خصوصيتها وفقا للوحي الإلهي. هذا الفهم الصحيح الذي استطاع أن يحول المجتمع الجاهلي ذي البناء القبلي الذي تتحكم فيه العقلية الذكورية المهيمنة حيث لا تعد المرأة شيئا، إلى مجتمع متحضر ينظر الى المرأة بوصفها إنسانا كامل الأهلية له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات تحول نوعي لعبت فيه التربية الدور الأساسي دفعت المجتمع للاعتراف بنصفه الآخر، بل وفسحت المجال أمامه للفعل البناء، فشكل ذلك قيمة مضافة شكلت الفرق في أسس البناء. وعلى عكس ما نقلته نُقول الفقه المنحبس، فقد كانت النساء على عهد التنزيل جنبا الى جنب مع الرجال متزعمات لا تابعات، لم يكن خاضعات أو قابعات في ركن الزاوية التي توجب على المرآة أن تكون حملا وديعا مطيعا… فاذا تعدت هذا الحد كانت ناشزا.
حاشا لشريعة حررت الإنسان من كل أشكال العبوديات إلا عبادة الله سبحانه وتعالى، أن تعيد المرأة الى الرق، فالثغرة لم تكن في الدين، إنما في الاستنباط المغلوط الذي شكلت العادات والتقاليد جوهره فكانت الخزان الثقافي الشعبي الذي يغذي أفكار المجتمع وينعكس بالتالي على ممارساته.
والإسلام لا يختلف شكلا ولا مضمونا مع المبادئ العامة للحقوق، بل قاعدته الأساسية تكريم الانسان دون تمييز، لأن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه فكيف يجيزه لإنسان، لذا فدائرة المشترك مع جميع الفاعلين العاملين في المجتمع المدني أوسع بكثير مما يعتقد البعض من أن منطق الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان يتنافى مع منطق الشريعة الذي ينبني أساسا على ظلم المرأة والتضييق عليها وهذا أمر غير صحيح تماما وفيه من المغالطات الشيء الكثير ربما عن جهل بمنطق الدين الإسلامي الحنيف، ولا أفترض سوء النية في ذلك.
فإذا اتفق الجميع على أن مسألة التربية أساسية للقضاء على كل أشكال التجاوزات اللاأخلاقية بما في ذلك العنف ضد المرأة، كانت الضرورة ملحة لبناء منظومة تربوية رصينة تنتج أجيالا قادرة على احترام الآخر والاعتراف بحقوقه وإن شكل الحلقة الأضعف. وترسخ مبادئ الاحترام والتقدير لنصف المجتمع والذي يتربى النصف الآخر على يديه، فللعنف انعكاساته السلبية على المرأة وصحتها الجسدية والنفسية وحتى العقلية أحيانا، والأكيد أن لذلك كله ظلاله المظلمة على المجتمع.
وفي غياب لتربية حقيقية، تبدأ بالمدرسة وتنتهي في الشارع مرورا بالأسرة، ترسخ مبادئ الإنصاف والعدل دون اقصاء أو تمييز، وفي غياب قوانين وتشريعات رادعة لكل أشكال العنف ضد المرأة حماية لكرامتها التي هي من كرامة المجتمع، وفي غياب الحماية الأمنية والاقتصادية للنساء ضحايا العنف اللائي قررن الإفصاح…. في غياب ذلك كله تبقى الوضعية الاجتماعية للمرأة هشة، مما من شأنه أن يحدث خللا كبيرا في بنيات المجتمع ويؤدي بذلك الى ظواهر اجتماعية أشد خطورة وأكثر استفحالا.