في ذكراك سيدي

مر حول كامل وارت فيه جموع غفيرة مُحبة جسدك الطاهر الثرى، رحلت بعيدا وأنت باق بيننا، ترفرف روحك الكريمة نقية مشرفة تذكرنا العهد إن غفلنا أو توانينا، تذكرنا أن لا مطلب إلا وجه الله الباقي والدنيا فانية.
أقف سيدي في ذكراك منحنية الهامة أمام شموخ عطاءاتك،أقف مبجلة عقودا من الزمن استغرقتها في بناء طود شامخ خلفته بتواضع لأجيال متلاحقة، بناء رفيعا يلامس السماء العالية وتمتد جذوره في أرض فهمت جيدا قيمة المرور بها، ووضعت له عنوان الفناء في الله دعوة وتربية وجهادا. أشرقت روحك الطاهرة رغم المحن رغم الابتلاء متحدية الواقع متشوفة للغد الذي لطالما أملته.
أقف سيدي منحنية أمام عظيم تضحياتك ليس انتصارا لذات فانية بل لدين خالد. رفعت الصوت في زمن الصموت فقلت لا عاليا للظلم والخنوع والتبعية والاستبداد.
أقف سيدي منحنية انحناءة وفاء وشكر وثناء لعجيب التحول الذي صنعته في شباب جيلي وقبله وبعد، كيف علمتهم أن الفضل في إحياء الدين وتجديد النية في كل عمل حتى لا يكون لنا عن الله بديلا أو وجهة، وأن الاقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلموالعض على سنته المشرفة حصن من الزيغ والابتداع والزلل، علمتنا كيف نحب ومن نحب وكيف نجعل حبنا لله خالصا يرفعنا الله به إلى درجة من نحب، وحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم أساس الطريق.
أتذكر كيف غرست محبة الله العظيم،مزهرة يانعة في صدورنا، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسقيتها بنور الذكر وتلاوة القرآن الكريم وحفظه،مستحثا الهمم إلى معالي الاغتراف من عطاءات الله التي لا تنقضي وفيوضاته التي لا يقنع منها إلا غافل محروم.
أحييت نفوسا كلت حينما ربطتها بالله، وأنقذتها من عشوائية العيش إلى سكون الحياة المستأنسة بالله.
غرست فيها تمار المحبة والقرب والاتباع، وحببت إليها تلاوة الذكر ومدارسته والاجتماع عليه، وأحييت نفوسا لطالماركنت إلى الدعة والغفلات،ووجهتها إلى إحياء لياليها البهيمة بأنوار العبودية وطرق باب الرحمن، وأيامها بالسعي في ربوع الأرض طلبا للعلم والعمل النافعين عبودية لله تعالى، والدعوة والجهاد والإحسان إلى الخلائق وعمارة الأرض …
أقف سيدي منحنية أمام علمك الذي خلدته في كتاباتك، ذاك العلم الموصول بالله، المقترن بالعمل، الذي يضع صُوى التغيير علّنا نتبعها فنبني أمجاد أمة ذلت وزلت، علم لم يبق رهين التنظير والتقدير، بل نزل إلى الواقع مخططا وبانيا.
حييت للأمة وعاش الكثيرون لأنفسهم.
أردت وجه الله الكريم وانبطح كثيرون طلبا للمناصب والجاه والثروة.
أنحني انحناءة إكبار أمام تواضعك وبذلك وعلمك ورفقك. لا تفارقني ابتسامتك الأبوية التي كنت دائما تغمر بها مجالسيك، تحنو على الضعيف وتقبل عترة المخطئ، تسدد وتنصح، وتكرم القريب والبعيد وتوصي بالإحسان إلى الأهل والرفق بالولد.
أتذكر في مجلس كيف أخذت أحد محبيك سنة من النوم لمشقة السفر وبعد الشقة، فوقع رأسه في حجرك فاستحيا وتعجب الجمع، فإذا بك تهون عليه مطمئنا:”لعل بك سنرحم في هذا المجلس”.
أتذكر كيف كنت دائما مستبشرا رغم المحن ولم تزد عودك إلا شدة وعزمك إلا مضاءا وهمتك إلا علوا، جبال الدنيا في عينيك نتوءات توصلك إلى أرض سهلة إيمانا منك ب”فلا اقتحم العقبة”. دائم التبسم كنت، وإن عظم تهممك بأحوال الأمة التي لا تفتأ تدعوها وتدعو لها.
أتذكر وأتذكر وأتذكر ولا يزيدني ذلك إلى تعظيما لما استطعتَ بتوفيق الله أن تكونه، ولما قدرك المولى تعالى لبذله من وقتك وجهدك ومالك، وما حققته في عمر يحسبه الناظر أعمارا حتى كنت حقا كلك لله.
أتذكر أنا كنا لك محبين ولا نزال،وأن شوقنا لك في ازدياد، وأن أمانة عظمى حملتنا إياها تلك المائدة التي جمعتنا عليها أبقاها الله الوهاب ممدودة موصولة إلى أن نلقاه ونلقاك بجوده وتفضله ورحمته إخوانا على سرر متقابلين.
لا نزكيك على الله سيدي فنقصم ظهرك، لكنها كلمات وفاء في ذكرى الوفاء.
رفع الله ذكرك سيدي، وأعلى مقامك وأنالك ما عشت من أجله: معية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودوام النظر إلى وجه الله الكريم.