تأملات في الحال والمآل

تتقاذفنا الأيام والسنون، وتتجاذبنا الأفكار والظنون، ونحن في الغفلات سادرون، يتربص بنا المنون، للقيا رب حنون، نثق في رحمته أكثر مما نثق في أعمالنا، ونحسن الظن به أن يكرمنا بالفوز به، ومن فاز بالله فاز بكل نعمه وغمرته آلاؤه.
الله في علاه يدعونا لرحمة منه وفضل، ويفسح لنا في الآجال ويكرمنا بلحظات القرب ومواسم الخير لنغنمها، ويعدنا الشيطان ويمنينا وما يعدنا الرجيم إلا غرورا.
يكرمنا المنان عسى نعد العدة للقاء، وأعظم به من لقاء، يدعونا للكسب ويدفعنا إلى الجنة دفعا، وكلنا داخلها برحمته إلا من أبى.
صحبة الخير علمتنا ألا نرضى عن وجه الله محيدا، علمتنا أن القناعة من الله حرمان، علمتنا أن معية الصادقين هنا تورث مخاللتهم هناك، علمتنا أن المرء مع من أحب، علمتنا أن صحبة أهل الوفاء والصدق والإخاء تورث الصفاء والفوز هنا وهناك.
هي الأيام دول، خسئ وما ربح من ركن إليها، ليس تزهدا هروبيا من الواقع، إذ القناعة ثابتة أن مشاركة أهل الدنيا في دنياهم من باب أداء واجب الاستخلاف وعمارة الأرض بما ينفع أهل الأرض ويرضي أهل السماء.
لكن الجري المستميت في حلباتها، وكأن المرء في حلبة يتبارى فيها الأقوياء على مركز الصدارة، وأية صدارة، يُنسي الإنسان غاية وجوده وسر مروره، فيظن أن الدنيا مقصودة لذاتها لا لما تثبته من نجاح العبد المكلف في امتحان المرور، إن فاز فيه ربح ونجا وأفلح وارتقى، وإن كانت الأخرى، والعياذ بالله، خسر واندحر وخاب وتكدر.
كم غابت معاني التذكير بالآخرة وأحوالها عن خطاباتنا وكأنا أضحينا نخشى أن نوصف بالرجعية والخرافية. هي النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون، يكشف الله غطاءه فإذا البصر حديد، ينظر إلى أمر الله رأي العين، فتطيب الحياة لمن طيّبها في أولاه بما أمر رب الأولى والآخرة، تطيب لمن سبقت له من الكريم رحمة تغنيه، ويتمنى غيره لو يفتدي من عذاب يومئذ بكل عزيز وأنى له ذلك، وتشفع أقوام في أقوام وتشمت أخرى في أخرى، والرب كريم متفضل أرحم بخلقه من الأم بولدها، ييسر سبل الانعتاق حتى لا يعذب عباده، ويدخل أقواما جنان خلده بلا حساب ولا سابقة عذاب، ويحاسب أخرى، ويستر على أهل الستر، ويعفو على أهل العفو، ويكرم الصادقين بصدقهم، ويجزل العطاء برحمته لمن أفنى العمر باحثا عن ربه في الإحسان إلى خلقه ودلالتهم عليه، يكرمهم بالجائزة الكبرى النظر إلى وجه الله الرحيم والمعية مع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ذاك إلهنا الذي نعبده خوفا وطمعا ومحبة ورجاء، عظيم بعظمة ذاته التي تعلو عن الشبه، وصفاته التي تسمو عن الحصر، وأسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، عظيم بعظمة ما أوجد، رب الأرباب ومسبب الأسباب واسع الرحمة شديد العقاب، ذو الجود والكرم، وذو المجد والطول، غافر الذنب وقابل الثوب، تعالى علوا كبيرا.
نحبك ربي ليس ادعاء، بل لأنك غرست في قلوبنا بذور محبتك، أعطيت ونسبت، فثبتنا اللهم على ما أجزلت ووف لنا العطاء وأحسن لنا الجزاء، واجعل حبك في قلوبنا لا يعلوه حب، وارزقنا محبة محابك، والسير على خطى خليلك ومحبوبك، فذاك لمحبتك برهان وعلى هواك عنوان، ولما كنت كريما فأتم يا من بدأت ولا تبتلينا بالسلب بعد المدد، يا خير مأمول وأكرم مسؤول.