جئناك يا قدس

وها قد تخففنا أخيرا، وجئناك يا قدس الصمود، ويا فلسطين الجهاد، فعذرا أيتها الحبيبة، إن طال انتظارك وما عيل صبرك. وواخجلنا ونحن نخطو إليك بخطى متعثرة مثقلة بطينة الدنيا، وهوى النفس، وأطماع الأغيار. واخجلنا وأنت تنتظرين، لازلت، بلهفة الأم المشتاقة الملتاعة على بنيها، تفتح ذراعيها، وتنسى طول انتظارها، وتكتم خصامها ولومها، بل وتنسى كل شيء، فلا زال حضنها دافئا، مشتاقا، رغم قسوة الجفا وطول البعاد. عذرا أيتها الغالية، ما عققنا حقك يوما، ولكن أبعدتنا عنك هموم تشتتنا في فلكها، وأخذنا عنك أبناؤنا وأموالنا، حتى كدنا ننسى أنك أنت الأصل في كل ما بنا من نعمة. عذرا أيتها الأم الحنون، شغلنا عنك هم القوت اليومي، فغفلنا عن البركة التي كنت تنثرينها في عجينة خبزنا، ومرق طعامنا، فلما رفعت البركة من جميع أشيائنا، ذكرناك، فهرولنا بخطى مثقلة نجرها إليك كيلا تكسل أو تنكس على أعقابها. ها نحن أولاء نتخفف من الطينة، والخبز الأبيض، والفراش الوثير، والسيارة الفارهة، والأبناء المدللين، والزوجة المتطلبة، والزوج الغيور. هانحن نتحرر فجأة من كل الروابط والأحزمة التي كانت تشدنا بقوة إلى الراحة القاعدة الراكنة طوعا وكرها في أوطاننا. حين تجرعنا مرارة العيش في بلادنا وسئمنا من إخماد أنفاسنا المكبوتة تحت وسائد الحكام الجائرين فوقنا، ولم نعد نستطيع إقناع أنفسنا المتعبة بمذاق الأمن الممزوج بالخنوع والذل، والمشروط بمحو الذاكرة من ملامح أمومتك وقدسية القضية، عرفنا أنه لم يعد هناك ما يربطنا بعيدا عنك أيتها الأم الحانية، ولا ثمن للحرية كما لا راحة إلا في دفء حضنك الحنون، ولا بديل عن أمومتك الفاضلة. عذرا أيتها الجامعة لشملنا، الموحدة لقلوبنا، هاأنت، رغم جفائنا لك، وانشغالنا بأنفسنا عنك، تسامحيننا بقلبك الكبير، وتجمعيننا أشتاتا إليك، توحدين قلوبنا تحت راية حبك، فتخطو إليك أرواحنا المشتاقة على ركاب أجسامنا المتعبة، ولسان حالها يهتف بقدسية اسمك: جئناك يا قدس. حين عزمنا على شد الرحال إليك، تحررت جوارحنا من كل قيودها، واشرأبت أرواحنا تتطلع إلى عالي مقامك، جئناك نجر أغلالنا الثقيلة، وأنت مكبلة بسلاسل من حديد، ليس نحن من يطالب بتحريرك، بل أنت من حررنا من ربقة خنوعنا. صمودك وسماحتك وثباتك وتضحيتك فرسان فكت قيود أسرنا. إنك بحق لأمنا الحنون. تتقطع قلوبنا، وتتمزق أوصالنا ، ونحن نشاهد صبرك وجهادك على مر السنين، رفضت أن تبيعي اسمك من أجلنا، فأنت جامعة شتاتنا، وهاأنت ذي توقظيننا من سباتنا العميق عمق جراحك، لنهب إليك، نتواسى بزيارتك، لانواسيك، ونتملى في طلعتك البهية، نتقوى بعزمك وصبرك، لا نقويك، لنثبت على هبتنا وقومتنا لا نثبتك. جئناك يا غزة العزة، ونحن نغالب خوفنا من مشاهد التقتيل والحرب التي رسمتها وسائل الإعلام في باطن ذاكرتنا، ولازالت تكرسها وتحفرها بقلم الجبر على لوحات إشهارية عملاقة في كل أرجاء بلادنا، حتى لا تسول لنا أنفسنا المرعوبة زيارة بقاعك المحتلة، حتى رفعنا سيف التحدي في وجوهنا، وقررنا المجيء إليك، فإذا بنا نستنشق عبير الحرية في جميع أرجائك، ونذوق طعم الأمن الحقيقي الذي لم نستشعره أبدا تحت سماء أوطاننا الحرة المرة.