خزي و انتحار

خزي و انتحار
وأنا أتأمل حادثة 8 مارس التي اهتز لها الشارع المغربي، واستنكرها المراقب الدولي، حين انهال المخزن المغربي بهراواته على النساء في وقفة البيضاء السلمية، تخليدا ليومهن العالمي، ينتفض الكل من جديد على حادثة مشرع بلقصيري التي أطلق فيها شرطي النار على ثلاثة من زملائه، في حالة هيستيرية غير بعيدة عن حالة الجسم المخزني المتخبط في اضطراباته النفسية التي بدأت تنتشر في أعضائه لينتحر انتحارا متسلسلا بطيئا، نسأل الله الرحيم ألا يكثر ضحاياه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
في عيدها السنوي المعدود بالأصفار المتراكمة خلف الأرقام التي تؤرخ لحصيلتها الوفيرة من سنين الظلم والاستضعاف في أسفل السلم، طلبت المرأة من جديد مقابلة السيد المخزن لمباركة احتفالها بيومها العالمي لهذه السنة، وقد قررت بإرادتها وخارج وصايته، أن يكون احتفالها في هذه المرة وقفة رمزية لوقوفها على قضيتها بنفسها، ووقوفها مع أخواتها النساء في كل العالم، خاصة شقيقتها الشامية الجريحة تحت نير العتاة البعثيين، فاختارت للوقفة ساحة الحمام تيمنا برمزيته للسلام في هذه المناسبة التي لا تطلب فيها أكثر من السلام لأخواتها في كل العالم. فماذا جرى؟ وكيف تم الاحتفال؟
الهدية الصفراء
استقبلها السيد المخزن ممثلة لباقي النساء، بحفاوة متوددة، وتحت حراسة مشددة، فلما علم بهويتها، وسبب زيارتها، تلونت ملامحه الباردة بصفرة الوردة التي بين يديه، وابتسم مرغما وهو يمد إليها يده مرحبا:
-اقبلي مني هذه الوردة بمناسبة عيدك، وكل عام وأنت رهن إشارتي إذا أردت أن تبقي تحت رعايتي السامية.
فهمت المرأة أنها بداية المساومة، وليس من مبادئها التملق والمداهنة، خاصة والأمر يتعلق بأختها الجريحة، والنصرة ضرورة ملحة صريحة، فقاطعته حاسمة عازمة :
-شكرا أيها السيد، لكن وردتك الصفراء لا تعجبني، وغيرتك المستبدة المستعبدة لا تروق لي ولم تعد تليق بي. وإنما جئت لإشعارك بقراري وإعلامك بجديد أخباري.
احتفال مشروط
تقلصت أسارير السيد المتعجرف، وتقلصت معها يده الممدودة بالوردة المسمومة، لكنه استجمع برودة دمه ، لإخفاء ملامح الامتعاض من وجهه الجامد، وهو يقول:
-لا بأس أيتها السيدة الفاضلة، فلتحتفلي كما شئت، وكما يروق لي، ولتجلسي رفقة صحيباتك على مائدة العيد تلوكين علكتك المستعصية على أسنانك، وتطفئين شمعة جديدة على كعكتك القديمة، لكن إياك أن تغادري رقعة رقابتي، أو تخرجي من دائرة وصايتي، ولتتبعي التعليمات المسطورة، ولا تتجاوزي الخطوط المحظورة، وسأسجل لك برنامجا بالصوت والصورة، ليطلع على احتفالك كل المهتمين بقضيتك المقهورة.
مرة أخرى وبلهجة أقوى، قاطعته المرأة قائلة:
-أرجوك أيها السيد، فلتدعني أحتفل على طريقتي، لقد قررت أن يكون تخليدي لهذا اليوم خاصا، واحتفالي به متميزا، أريد أن أقوم من جلستي القاعدة المتعبة المملة، لأقف مع أختي المحاربة في بلدها، الجريحة في عيدها، فقد قعد عنها الرجال والنساء، ولازلت أدعوك لتقف معنا وقفة الرجال الحماة غير الطغاة إذا أردت أن تتصالح مع دعواك وتبرهن على صدق نواياك.
سقط القناع
كانت الرسالة واضحة، والمرأة حاسمة، بشكل لم تترك معه للسيد المخزى خيارا إلا أن ينتزع القناع المهادن من فوق وجهه، ولسان حاله يقول: ” لم يبق لنا إلا أنت أيتها المرأة” لكنه تماسك بصلابته المعهودة، ورسم على وجهه ابتسامة أكثر صفرة من الأولى، وهو يقول:
-يمكنك أن تراسليني بشأن شقيقتك، وأنت تعرفين أني لا أقصر ما استطعت وأعدك أني سأنظر في أمرها ، لكن دعك من هذه الوقفات الشعبية والهتافات الحماسية، فهي تزعج أصدقائي، وتفسد حساباتي، وقد تبعثر أوراقي، وتعطي انطباعا سيئا عن مملكتنا السعيدة، وقبل هذا وذاك، فالوقوف قد يعيي أطرافك النحيفة، ويضر بصحتك الضعيفة، ونحرص على سلامتك، ونتمنى عدم إذايتك.
فهمت المرأة اللبيبة مغزى الكلام، واستشعرت التهديد الجبان، لكنها لم تستطع أن تجبن عن نصرة شقيقتها، وحمل قضيتها، وإن اقتضى الأمر أن تتخلى عن مباركة مزيفة، ألفتها ضمن مراسيم احتفالاتها الماضية. دارت جميع السيناريوهات في مخيلتها الذكية، ولبثت برهة للتفكر في الكلام، فهي المسؤولة التي تكبدت حمل القضية، وهي الرزينة التي تعلمت التريث في أخذ القرارات المصيرية، وهي القوية التي لاتستفزها العبارات الملتوية، وهي المؤمنة المجاهدة التي لا تخاف في الله لومة لائم، ولا تهديد جبان واهم.
وقفة بصفعة
استوت المرأة القوية قائمة فحملت وقفتها الرمزية معاني المسؤولية التاريخية في قضيتها ونصرة النساء المستضعفات في كل العالم، وتحية إجلال وتثبيت لأخواتها السوريات في وجه العتاة.
في هذه اللحظة نفسها أفصح المحاور الرعديد عن قزمة رجولته، وزيف ادعاءاته، فنزع القناع المثقوب عن وجهه الخبيث، ورفع يده الكليلة في وجه المرأة الشريفة، بصفعة أبانت عن حقيقة الحوار الذي يدعيه، وكذب الشعارات التي يروج لها.
وأسدل الستار
هكذا انتهى الحوار الخوار ؛ وطارت الحمامات عن محضنها، فلم يعد لها قرار، ودفن الزمان والمكان ما شهدا من عجيب الأسرار، لكن المراقب اللبيب قرأ ما وراء السطور والأفكار، فسجل للمرأة الشامخة أكبر انتصار، وعلم أن المخزن المخزى قد استنفذ كل ذخيرته في معاملة الأحرار، والعصا التي هوى بها على أمهاتنا في عيدهن كانت السلاح لأخزى انتحار.