إن للرجل لأسرارا

إن للرجل لأسرارا
تمر الأيام ثقيلة على قلبي منذ فراقك أيها الإمام الجليل، تجرني جرا إلى اليوم الآتي، ولازلت أعصر ذاكرتي عصرا لأخط شيئا قليلا في حقك، وشهادة متواضعة مقابل جزيل عطاءاتك وطول جهادك، لكني أجد الذاكرة ممسوحة وقلمي الحائر متجمدا بين أصابعي المرتعشة.
ماذا عساني أقول في هذا الرجل الثقيل بموازين المعاني والأخلاق، الخفيف المتخفف من موازين الدنيا وماتزن من حمولات الدنيا وأوساخها، وأنا أطلع في كل يوم على عشرات الشهادات التي تتقاطر كالسيل على لسان الدانين منه والقاصين كما تقاطروا جميعا على جنازته المهيبة، فلا يزيدني ما أقرأ إلا عجزا عن التعبير، ولايزيد أناملي إلا فشلا وشللا، ولايزيد قلمي إلا جمودا وخجلا. حتى حبست نفسي قهرا وحملت قلبي وقلمي قسرا، و حديث: “اذكروا محاسن موتاكم” يرن في أذني ويتردد صداه في عقلي وقلبي، يهتف بي أن وفاءا وشكرا ودلالة على الخير، وجبت الشهادة وحقت الكتابة.
فأنا أشهد الله عز وجل على شكري لهذا الرجل العظيم وامتناني له كثيرا، فمن لم يشكر الناس لا يشكر الله؛ وأشهد من لم يعرفه بعد ولم يقرأ له ولم يصحبه، على ما رأيت من جميل أخلاقه وصلاح أعماله، لعل الله يرزقني بهذه الشهادة أجر الدلالة على الخير وأهل الخير ومواطنه. فالدال على الخير كفاعله.
وهذه بعض قبسات مما لفتني وشدني إلى الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، جمعتها من شتات الذاكرة الممسوحة، خجلى، متلعثمة، يشفع لتبعثرها وركاكة أسلوبها صدق النية وصفاء المحبة، وسعة قلوبكم.
ما لفتني أول ما سمعت عنه…
شجاعته في الحق حتى لم يخف في الله لومة لائم، فصدع بالنصيحة الصادقة في وجه أعتى العتاة، في وقت كان الناطق لا يكاد يستكمل الكلمة من فيه حتى يطير رأسه عن جسده، لكن هو، قالها جهارا كلمات ناصحة واضحة لا تماري ولا تداهن، لكنها تعطف وترحم أن: يا حفيد رسول الله، تب توبة عمر بن عبد العزيز، ورد المظالم لأهلها…فكانت أول صورة تنطبع في عقلي وتحفر محبته وإجلاله في قلبي هي صورة المجاهد الذي يقول كلمة حق عند سلطان جائر، كما انطبع معها في ذات الوقت حفظ الله له إثر رسالته، فترى الملك الجبار، يكيد له كيد الضعيف الذي لاحول ولاقوة له ولا سلطان… فتأكد لي حينذاك أنه رجل لا ككل الرجال، وأن لديه من الأسرار الربانية ماحفظه الله لنا من أجلها.
ولفتني عندما قرأت له أول مرة…
ولازال يشدني إلى كتاباته إلى اليوم: عبير الصدق الذي ترشفه مع كل كلمة مكتوبة وكل جملة مسطورة في كتبه المتوضئة، القوامة الليل، القوامة بالقسط، الذاكرة المذكرة بالله، كيف لا وقد كان الحبيب يخط جلها قائما في جنح الليل، متوضئا مستقبلا للقبلة بجسده وعقله وقلبه، ذاكرا لله ، متضرعا إليه سبحانه أن يفيض عليه من الرحمات وعلى الأمة من النصر والتأييد والثبات.
ولقد كنت من هواة اللغة العربية، فانبهرت بدقة تعابيره وجمال أسلوبه، وإتقان اللغة أيما إتقان، مع القوة في الحق، واليقين بموعود الله تعالى وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، والأدب الجم مع الكتاب والسنة، مع التخريج والتحقيق على منوال المحدثين، وضبط الفقهاء وحفظ القراء، فتأكد لي مرة أخرى أن للرجل أسرارا، ولكتاباته أنوارا تنال منها على قدر صدقك وطلبك، وماهي كتب فكرية نظرية تنظيرية تخاطب العقول، بل كتبت من قلب كبير جامع، لتتسرب إلى القلوب الصافية الطالبة للحق، وتوقن بها العقول السليمة، وتتحرك بموجبها الجوارح الصادقة المجاهدة.
هالني عندما رأيته أول مرة…
تعابير الطيبوبة في ملامحه الوضيئة، ونور الصلاح الذي يشع من محياه، وابتسامته الحانية التي لاتفارق شفتيه، وانحناءة التواضع في وقفته ومشيته وجلسته، حتى إنه كان ممن رآه أول مرة، ولم يؤذن له بفتح بعد، أو ممن يعاند قلبه ويجحد كل ما لايدرك بالعقل والأرقام والمظاهر، أن صغر من قيمته لما رأى من تواضعه على علو شأنه، وبساطته على عظمة قدره، وتساءل خفية أو جهارا: هل هذا نفسه من تقيمون الدنيا وتقعدونها لأجله؟ ولعله سؤال خطر لي في وقت من الأوقات كذلك، لكني الآن أقول: بل هو من أقام الدنيا ولم يقعدها حين حمل هم الأمة فراسل الملك ونصحه، وجمع الفضلاء لأجل التهمم بأمر المسلمين، فلم يجتمعوا له، فمضى قائما ولم يقعد، وأصدر المجلات والمكتوبات ثم أقام الجماعة، وأقام دنياه لآخرته ولم يقعد أبدا حتى لبى نداء الرفيق الأعلى إلى الجنة والزيادة إن شاء الله.
ولفتني عندما سمعته أول مرة…
حرصه الكبير على الوقت ألا تضيع منه دقيقة، وإيجازه في الكلام النفيس وتبليغه ببساطة واختصار، وضبطه للتدخلات، وحسن الإنصات والإجابة على الأسئلة ببساطة دون استعلاء أو استهجان، مع تحريه السنة في دقائقها، وتوصيته الدائمة بكتاب الله، وتخريج الأحاديث وتفاعله الغريب معها، فترى اليقين يشع من عينيه الكريمتين، وهو يحدثك بأحاديث الخلافة وغيرها من المبشرات بغد الإسلام، فكأنما ينظر إلى كل ذلك رأي العين.
وما لفتني في إخوانه في الجماعة…
هذه العلاقة الغريبة التي تجمعهم، مع صفاء السريرة والدعاء عن ظهر الغيب، والانقياد لروح الجماعة، على اختلاف الرأي والطباع والبيئة والمستوى المعيشي، و وما سمعته عن مبادئ نبذ العنف والخلاف والدعوة بالتي هي أحسن، وجمال السمت والأدب، ولا شك أن كل ذلك نابع من مبادئ التربية الحكيمة عند الأب الروحي للجماعة وقائدها المجاهد الرباني المجدد: عبد السلام ياسين رحمه الله وجزاه الله عن هذه الأمة خير ما هو أهله.