ثالث البدع السياسية: التوريث وولاية العهد
التوريث هو أن ينصب الحاكم المستولي على سدة الحكم ابنا له أو أحدا من أقاربه بعد وفاته، بحيث لا يحق للأمة اختيار الحاكم دهورا وأزمنة متطاولة بفعل التسلسل القهري النابع من توالي أبناء المستولين على ربقة الحكم. ولست أدري لم سوغ ابن خلدون هذا القهر المستدام على الأمة على الرغم من أنه مناقض لجوهر الدين والعقل والعرف الإنساني، حين يقول:” والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، و عدل عن الفاضل إلى الفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.”
فالذي يتحدث عنه ابن خلدون رحمه الله إنما هو واقع الحال الذي يصور فيه كيف أن بني أمية غلبوا بقوة شوكتهم وامتداد عصبتهم، ولكن الحقيقة المعتبرة في هذا الشأن هي أنه ليس للواقع الظرفي أن يغير من التصور الكلي الذي يحكم الفعل الإنساني في الأرض، لذلك كانت التصورات هي المرجع الأخير في تقويم وتقييم الفعل الإنساني، ولم يثبت تاريخا أن غدا فعل شخص ما قانونا قاهرا تجتره الأجيال المتعاقبة لاسيما إذا كان ذاك الفعل مخالفا للصواب قطعا ويقينا ومضادا لمصلحة الأمة كلها، لذلك لا نوافق على تنصيب معاوية ابنه يزيدا خليفة له وملكا على الأمة قهرا واستبدادا وإفسادا دون اختيارها له، ولن نجاري تبريرات الفقهاء في هذا الشأن، لمخالفتها للنصوص القطعية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الحرية للأمة لكي تختار حاكمها بمحض إرادتها دون تنصيب واحد إكراها، أو الوصية لآخر اضطرارا …
فالعصمة للأمة وإجماعها، وهي لا تجتمع على باطل، ولم يُسَم هؤلاء الخلفاء راشدين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا حين اختارتهم الأمة، فكان لها آنذاك نصيب في المراقبة والمحاسبة بخلاف الذين استولوا على سدة الحكم عن طريق القتل أو الوراثة القهرية … فإنهم ملوك، نعم ملوك وإن كان بعضهم صالحا.
إن ما يهمنا في هذا الشأن ضبط التصور فحسب، فالمُلك القهري أو تنصيب أئمة خارج سياق اختيار الأمة مخالف حقا للنصوص القرآنية ودلالاتها، إذ لا يوجد نص قرآني فيه تنصيص على عائلة تحكم الأمة، ولا يوجد فيه تنصيص واضح لخليفة سيأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم حاكما بعده دون اختيار الأمة له … لنخلص أن تسويغ إخضاع الأمة للزعامات أو الأئمة أو الملوك المتسلسلين تاريخيا إخراج للشعب عن دوره الطليعي، وإمعان في قهره وإذلاله وتكسير إرادته وجعله إمعة تابعا خانعا منبطحا لتوجيهات الأسياد واستعباد الكبراء …. ولم يدر هؤلاء المسوغون أنهم يسلبون الشعب أنفس ما عنده وهي الحرية والانعتاق وتنسم فيحاء السيادة الشاملة له في الاختيار أو المراقبة أو العزل، بل إنهم لم يعرفوا أنهم يظلمون بفعلهم ذلك أمة شاهدة على الأمم الأخرى شهودا تاريخيا وشهودا من حيث معرفة حقيقة الوجود كله.
مواضيع ذات صلة
بدع سياسية: 1-جبرية البيعة الصوريةبدع سياسية: 2-الاستكانة للحاكم وعدم الخروج عليه وإن كان ظالما