مخاض جبل

أحداث متوالية تتناسل بكثرة وقوة، وفريقان متباينان كل منهما يدافع عن وجهة نظره بما يليق بمقامه وقناعاته ونوعية مناصريه.
طبيعية هي ظاهرة الاختلاف ما قادت إلى حق وكان الدافع إليها نصرته لأن الإنسانية تقتضي التنوع الذي يضمن الرقي والحضارة، ولأن التنقيب عن الحق مطلب لأجله خلقنا الله عز وجل مختلفين.
لكن ماذا لو كان الاختلاف مزعوما مرغوبا للذوذ عن باطل أو ما يشبه الباطل.
“تمخض جبل عظيم فما ولد إلا فأرا” مقولة تصدق على وعود أعطيت وأماني معسولة ألقيت وتمنيات منيت فما كانت إلا غرورا.
كنا نتوسم أن يُوَلِّد هذا الحراك الشعبي المبارك الذي تشهده بلادنا تغيرات جذرية على مستوى الهياكل والأجهزة والمخططات و… النيات.
فرصة ذهبية أعطيت لمن بأيديهم مسؤولية هذا الوطن الكريم عساهم يرفعوا عنه سياساتهم التجهيلية التحقيرية التجويعية التفقيرية، فإذا بهم يخرجون إليه بكل صلافة يقنعونه بصدق ما صنعت أيديهم ويجيشون ذوي الحاجات وما أكثرهم في شعب ما يزيد عن نصفه أمي يعيش الفقر المذقع ويعاني من انعدام العدالة الاجتماعية مع ما يمكن أن ينتجه الفقر -الذي كاد أن يكون كفرا- من مظاهر اجتماعية مقيتة ومخلة نتصدر فيها المراتب العليا ولا فخر، بطالة في دعارة في تسول في جريمة… واللائحة تطول.
ليس الإشكال في شعب أصيل كشعبنا إنما الإشكال فيمن يسوسونه وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يسوس، هذا الضياع الواضح الفاضح على كل المستويات، إن أردنا أن نمثل لها سيكون التعليم أول ما يمكن أن نذكره.
كيف يمكن أن نجد أنفسنا أمام متعلمين لا تستطيع نسبة مهمة منهم أن تعبر عن أفكارها بشكل مقبول كتابة ومشافهة، لا تقوى على الكتابة دون أخطاء ولا تتمكن من أن تجتاز امتحانا دون أن تغش أو أن تفكر في الغش، هم نتاج سياسات تعليمية ترقيعية مشينة ما أنبتت زرعا ولا آتت أكلها. ولا إرادات حقيقية في التغيير.
كم يحرص هؤلاء الساسة أن يزينوا فترات الامتحان بالمشاهد الملهية، مباريات لكرة القدم، وكم يحب أبناؤنا هذه اللعبة الشعبية التي يتوسمون فيها خيرا عسى أن ينتج القدم في حياتهم تحولا نوعيا عجز عن إنتاجه القلم، ومهرجانات ماجنة تسوق الرذيلة وتزيد الشعب إلهاء وتحقيرا، ومشاهير الفجور والخلاعة التي نهشت الملايين من عرق جبين دافعي الضرائب من هذا الشعب الأبي لتعلن إحداهم أياما قلائل بعد ذلك أنها ستستثمر أموالها في الرفع من مستوى التعليم في “دولة إسرائيل”! لم لا، فنحن أهل الكرم والتضحية، لم لا نضحي بأموالنا وتعليمنا ليحيا تعليم أعدائنا!
أما ثالثة الأثافي ما تتوج به امتحانات هذه السنة من تصويت على دستور ممنوح، كان بالإمكان أن يشكل تعبيرا حقيقيا على حسن نية الساسة، وإرادتهم الصادقة في التغيير وإنقاذ ماء وجه هذا الوطن، لكنه تمخض فأكثر من التوائم فعوض الثمانية بعد المئة من البنود أضحى ثمانين بعد المئة، وليتها زيادة في التمكين من الحقوق بل تنويع وتجميع لمسؤوليات من ينبغي لهم كل “التقدير والتبجيل”.
إنه استمرار للاستبداد، وتعبير عن رفض مطالب الجماهير المصرة على إسقاط الفساد، وصم الآذان دون احتياجاتها.
إنه تكريس للفردانية شكلا ومضمونا وبعد عن المنهاج التشاركي التشاوري الذي أوجبه الله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”.
إنه تذكير لهذا الشعب بتاريخ ساسته “التليد” المبني على التزوير والتهميش والتعنيف والذي يعتبر الإفك والأباطيل والتشهير بالخصوم من أمضى أسلحته وأفتكها.
ما أشبه الغش الذي سمعنا به في الكثير من قاعات الامتحانات بما يجري في الساحات الكبرى للمدن من فوضي و”بلطجة” وما نجده من فساد إدارات الدولة وتردي أجهزتها. مآس يولد بعضها بعضا هي حتما نتاج سياسة واحدة وتدبير هزيل.
أرادوا بهذه الأمة شيئا وأراد الله تعالى لها حتما خلافه، وما الربيع العربي إلا مظهر من مظاهر قدر الله تعالى نسأله جل شأنه أن نوافق قدره وأن يجعلنا من بُناته ومن سواعده القوية، وإنه التغيير الذي لاحت بشائره في الأفق فدعونا أبناء وطني وبناته نتعرض لرياحه.