الكراسي في ظل الربيع الديمقراطي صنع محلي

فاجأتنا أقدار الله هذه السنة بظاهرتين اصطلح على تسمية كل منهما “تسونامي”، تسونامي طبيعي أذهل المتتبعين وفاجأ اليابان التي تمتلك أقوى التقنيات المضادة للزلازل واتخذت كل الأسباب لتفادي الكوارث، نامت قريرة العين في مأمن حتى هزها تسونامي مدمر أتى على الأخضر واليابس، آية من آيات الله إلى كل من ألقى السمع وهو شهيد.
أرض اهتزت هناك وعروش تهتز هنا وتتزلزل تحت أقدام حكام ظنوا أنهم أحكموا قبضتهم على الشعوب وتمرسوا في تقنيات ضبط الشارع وتفننوا في إسكات الأصوات المعارضة، حتى ظنوا أنهم قدروا عليها جاءهم تسونامي سياسي من نوع فريد.
أتى أمر الله بياتا فنقض عروشهم، لم تجد الآلة القمعية التي سخرت لتكميم الأفواه ولا الرشاشات لتفريق الحشود ولا البلطجة قتلا للأرواح وهتكا للأعراض وتدميرا لمقدرات البلاد. إذا بلغ الطغيان مداه فالمباغتة في أخذ الظلمة المتجبرين سنة من سنن القهار سبحانه.
بعد فصول من عرض الطيبة والخطاب المعسول والوعود والسخاء أتى التهديد والوعيد وسلك الحكام سلوك البلطجة واستخدموا آلة التعنيف والقمع والقتل وسفك الدماء وإهدار الأرواح.
لم تضعف ولم تتراجع هذه الحركات أمام الحرب الشرسة بجميع تلويناتها بل لم تزدها إلا إصرارا ونضجا، جل الحركات بدأت بأعداد نسبيا هزيلة وسقف المطالب لم يتجاوز المطالب المعيشية، لكن الحكام لم يفقهوا أن سياسة المنع لا تجدي نفعا في وجه شعوب عرفت سبيل الانعتاق وكلما بولغ في استخدام القمع رفع سقف المطالب إلى أن تعالت الأصوات “الرحيل الرحيل”.
استمدت كل الحركات التغييرية قوتها من أمرين غاية في الأهمية: مشروعية مطالبها والالتفاف حول هذه المطالب مع اختلاف المكونات السياسية والإيديولوجية وحتى العقدية في بعض الأماكن.
بكور رياح التغيير هبت في تونس وتلته مصر ثم باقي الأقطار العربية، تحت أعين المراقبين، استوعبت الشعوب دروس نفيسة في المطالبة بالحق لكن الحكام لم يستفيدوا ولم يتعظوا. بل ملة الظلم واحدة، وصوت الجبر يصدح أن لا أريكم إلا ما أرى.
في بلدنا تغنت فئة بالاستثناء المغربي باعتباره البلد المتميز عن محيطه حيث عمل على تسويق صورة منمقة خارجيا تفيد أنه انخرط فعليا في الإصلاحات قبل “التسونامي السياسي” ونهج نهجا مغايرا أكسبه نقطا في صالحه بعدم انتهاجه المقاربة القمعية ضد المتظاهرين. لكن هذه الصورة الجميلة التي يرسمها المخزن ما عادت تقنع المواطن المغربي الذي لازال يعاني الأمرين على كل المستويات.
فجاءت مسيرات 20 فبراير، لتعمل معولها في هدم مسرحية الإصلاح وتكشف الوجه الآخر لمفهوم الإصلاح، لكن الاستثناء فعلا هو التكتيك الذي قابل به النظام هذه المسيرات، مسخرا من أجل احتوائها كل الوسائل.
فعلى المستوى الإعلامي: تنقل القناتين الإذاعيتين الأولى والثانية تحرك المسيرة حتى يكاد يظن المتتبع لوهلة أنها نظمت بأمر من النظام وتسير برعايته، في غياب تام للأمن. طريقة لحملة تشويشية على الحركة سرعان ما تهاوت ولم تجد نفعا.
على المستوى السياسي: بادر الملك بإلقاء خطاب 9 مارس أهم ما جاء فيه تعيين المجلس الاجتماعي والاقتصادي وكذا المجلس الوطني لحقوق الإنسان وتعديل الدستور، ما إن انتهى الخطاب حتى أطلت جحافل المنتفعين مادحة مهللة مبشرة مصفقة، أسمت الخطاب بالثورة، لكن الخطاب لا يلبي متطلبات الحراك الشعبي.
على المستوى الدبلوماسي: عمل المغرب جاهدا على حصد الأصوات المتغنية بالنموذج المغربي، لكن سياسة التنميق قد تنقلب إلى التزام يعمل على إسقاط القناع وكشف الوجه الآخر للنظام مع انتهاج آلة القمع ضد المتظاهرين.
على المستوى الاجتماعي: خلق مناصب شغل لبعض المعطلين، وقرار الزيادة في الأجور للموظفين الرسميين، لكنها سياسة ترقيعية لا تعدو كونها حلا تكتيكيا مستثنيا فئة عريضة لازالت تغلي مع عدم تسوية ملفات المتعاقدين، الزيادة أيضا لم تشمل كل الفئات.
على المستوى الأمني: قمع بعض المظاهرات هنا وهناك واللجوء للعنف تارة هنا وتارة هناك 13 و15 مارس وآخرها العنف الذي مورس على المتظاهرين الذين أرادوا فضح معتقل تمارة السري، واعتقالات هنا وهناك. مقاربة للتذكير بهيبة المخزن وإنذار بقدرته على الضبط.
إلا أن الملاحظ أن التعاطي مع المستوى الأمني كان يشوبه كثير من الحذر إلى غاية 22 ماي حيث كشف المخزن على وجهه الحقيقي القمعي فقوبلت التظاهرات بقمع وحشي لم يستثن أحدا، حتى الأطفال والنساء نالتهم عصا المخزن في كل المدن الكبرى، مما لم يترك مجالا للشك أن الدولة قد انتهجت الخيار الأمني.
لكن ما الذي غير وجه المخزن في التعاطي مع حركة 20 فبراير المجيدة؟ ألم يتعظ نظامنا ممن سبقوا؟
لعل أصحاب القرار يريدون إسكات صوت الشعب بعدما أعيتهم كل السبل التي انتهجوها من قبل، خصوصا وأن عامل الوقت حاسم، في الوقت الذي يستعد فيه النظام لتهيئ الأجواء للدخول في مرحلة ما بعد تقديم الدستور المعدل “على مقاس” وما يتلوه من استفتاء وحل للبرلمان وانتخابات مبكرة، لازالت الاحتجاجات تتخذ مسارا تصاعديا والأصوات تغرد خارج سرب المخزن ويخشى أن تفرض إرادتها عليه.
لكن إخراس أفواه أسراب المعطلين ومسيرات القطاعات التي تنادي بتحقيق مطالبها الفئوية وأسراب سكان دور الصفيح وفلول العمال والطبقات المهمشة والمسحوقة، بات مستحيلا في مقابل عرض النظام الهزيل والذي لا يرقى للخروج من الأزمات المستفحلة سياسيا، اجتماعيا واقتصاديا.
اللجوء إلى العنف وإلى البلطجة لن يجدي نفعا أمام فلول المطالبين بتغيير حقيقي بعيدا عن الضحك على الذقون وروتوشات إن استطاعت إرضاء القوى الإستكبارية خارجيا لن تجلب إلا سخطا داخليا. وليفقه حكامنا أن الكراسي في ظل الربيع الديمقراطي صنع محلي.