تغييب الحريات والتغيير المنشود

قد تتفاوت الأنظمة العربية في درجات الانفتاح الاقتصادي والتنموي، والانفتاح الديني،أي درجة التمسك بالهوية، إلا أنها تلتقي جميعها في مسألة الانغلاق السياسي وتغييب الحريات العامة، مما يجعل الحريات المزعومة على مستوى التنمية البشرية والمعيشية غير المسيجة بتقوية السلطات التشريعية والقضائية التي تضمن ضبط ومتابعة المتجاوزين، مناسبة جد إيجابية لازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، كما تجعل الاهتمام بهوية الأمة دغدغة لعواطف الناس ليس إلا. ما يؤشر على أن الانفتاح في هذين المجالين لا يعدو كونه مجرد تكتيك لا يدل على صدق أو عمق هذه الخيارات.
ليس هناك حسب بعض الدارسين وفق تقابلية الانفتاح والانغلاق إلا ثلاث نماذج لأشكال النظام العربي: النموذج الأول يجمع بين الانفتاح الاقتصادي والاستثماري مع بقاء الانغلاق السياسي على حاله، وتمثل هذا النموذج تونس ومصر(العهد البائد). أما النموذج الثاني فهو الذي يقوم على الانغلاق الاقتصادي والسياسي مع التزامه بالدفاع عن الهوية والتصدي للأعداء، وتمثل هذا النموذج سوريا والسودان. في حين يجمع النموذج الثالث بين الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي والدفاع عن الهوية في الوقت نفسه، وتمثل هذا النموذج السعودية) 6 .
وفي ظل التصنيف الأممي لبلادنا المغرب والمراتب المتردية المحصل عليها سواء في ميدان التنمية البشرية أو التعليم أو الصحة، والإحصائيات المخيفة لنسب البطالة والفقر والأمية، إذا أضفنا إلى ذلك كله الغياب شبه التام عن قضايا الأمة منذ ما يربو على العشر سنوات، فإنه بإمكاننا إضافة شكل رابع من أشكال النظام العربي يتسم بالانغلاق التام في كل شيء، طبعا إذا استثنينا الانفتاح “الحداثي”، والهيمنة الاقتصادية لشركة “أونا” وبعض العائلات المتنفذة وهو انفتاح شاذ لا يقاس عليه بل قد يكون هو أصل البلايا ورأس المصائب في هذا البلد الأمين.
إن غياب الحريات في الوطن العربي جعل النظام الاجتماعي الحالي لم يعد يعبر عن إرادة الأفراد المكونين له، وبالتالي أصبح التغيير الاجتماعي ضرورة لا مناص منها، بل إنه وبالنظر إلى سطوة النظام العالمي الحالي يصبح التغيير الاجتماعي أكبر تحد تواجهه مجتمعاتنا وتستدعي مواجهته تضافر كل قواها الحية إسلامية وغير إسلامية، حسب”قانون التغيير الاجتماعي” لابن خلدون، الذي مفاده:أن أي أمر يرغب فيه الناس لابد له من “عصبية” لإعطائه القوة الدافعة والضامنة لتمريره، و”العصبية” دعم جماعي لحاملي لواء هذا التغيير، وأي أمر لا ينال هذا الدعم يكون مصيره الفشل) 7 هذا الدعم الجماعي هو ما يسميه الأستاذ عبد السلام ياسين بالميثاق الوطني، الذي بغيره لايمكن لأية حركة مهما بلغ شأنها أن تصلح بمفردها ما تضافرت القوى السلبية على إفساده.
تشير د.هبة رؤوف عزت الأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة إلى قضايا كثيرة يمكن أن نتحدث عنها كأمثلة للتغيير الاجتماعي منها:مشكلة الغذاء، والفقر،(أو بالأصح الإفقار) والهجرة، وحقوق اللاجئين، والعبودية المعاصرة- في إشارة إلى سوء معاملة الخليجيين للشغيلة الأجنبية لديهم باسم الإسلام- والعنصرية (المتمثلة في انتشار ظاهرة المجتمعات المسورة أي المحاطة بالأسوار لفصل الأغنياء عن الفقراء) 8 والقائمة تطول إذا أضفنا البطالة والتهميش والفساد الإداري والتسلط بسبب استغلال النفود ووو.
هذا التغيير الاجتماعي ينبغي أن يكون حسب الدكتور سيف عبد الفتاح:مقدمة لتغيير حضاري وعمراني شامل يتطلب من المسلمين التخلي عن الاستقالة الحضارية التي تعايشوا معها طويلا، للعب دور إيجابي في عملية التغيير الشامل وذلك عن طريق إعداد الخطط البديلة وتهييء الاستراتيجيات والعلوم المساعدة على هذا التغيير) 9 . ويضرب مثالا بضرورة إصلاح الفقه الجزئي، وتعويضه بفقه كلي شامل يسهم في عملية التربية عوض أن يكون مشكلا في حد ذاته. (مثال الفقه الجزئي: فتاوى الفضائيات). كما يدعو إلى إنسانية التغيير عوض إسلامية التغيير، في إشارة إلى أن كل فرد في المجتمع بإمكانه العطاء والمساهمة.
في نفس السياق يدعو الأستاذ عبد السلام ياسين حاملي لواء التغيير إلى العمل على محو الطبقية وإشراك كافة الناس والصبر عليهم حتى يطمئنوا بعدما فقدوا الثقة في الأحزاب والأنظمة. يقول:الناس شعوب وقبائل وفئات يريد الله عز وجل لها أن تتعارف، فإذا تعارفت أنكرت المنكر، ونصبت ميزان التقوى وميزان الإيمان، وهو نفسه ميزان العدل في القسمة) 10 . داعيا إلى التعارف والتآلف، ليسود مجتمع الأخوة والمحبة عوض مجتمع الكراهية المبني على الحقد الطبقي، فالمجتمع الأخوي تربة صالحة لإقامة العدل في الأرزاق، حيث توظف كل الطاقات البشرية والاقتصادية، لتنتفي العطالة ويستفيد كل العاملين، فينتفي الفقر، ويتكفل المجتمع الأخوي بعد ذلك بأصحاب العاهات والعاجزين. متطلعا نحو تحرر إرادة الأمة لتقرر مصيرها بنفسها.
[2] جمعية البلاغ الثقافية في قطر(إسلام أون لاين) . ندوة بعنوان “الإسلاميون ..هل من دور في عملية التغيير”
[3] جمعية البلاغ الثقافية في قطر(إسلام أون لاين)
[4] مفكر إسلامي وأستاذ للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة
[5] كتاب إمامة الأمة فصل “لا طبقية” ص 16
[6] الباحث الأستاذ رشيد الحاج صالح: مقال “الحرية هي الطريق الوحيد للمستقبل” موقع الجزيرة نت، )بتصرف(
[7] جمعية البلاغ الثقافية في قطر(إسلام أون لاين) . ندوة بعنوان “الإسلاميون ..هل من دور في عملية التغيير”
[8] جمعية البلاغ الثقافية في قطر(إسلام أون لاين)
[9] مفكر إسلامي وأستاذ للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة
[10] كتاب إمامة الأمة فصل “لا طبقية” ص 16