أربعينية فدوى العروي: ليس من رأى كمن سمع

زرت محل سكنى الشهيدة فدوى العروي، الأم الصغيرة التي لم تختم بعد ربيعها العشرين، التي أقدمت على إحراق نفسها مند أربعين يوما أمام مقر المجلس البلدي، بعدما يئست من إمكانية الاستفادة من بقعة أرضية كباقي سكان حيها دوار عبد العزيز بمدينة سوق السبت…، ليقيموا عليها ما يشبه البيوت، علها تجد مأوى لطفليها الصغيرين: رضوان وآية.
استقبلت القافلة التي كنت أرافقها، وتضم مجموعة من الفضلاء والفاضلات من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع بني ملال، عند مدخل دوار عبد العزيز بجيوش من الأطفال، تكاد ملامح البؤس البادية على وجوههم الصغيرة تطغى على مظاهر الفرح بالوافدين على حيهم، يجد كل ذي كبد رطبة صعوبة بالغة في مغالبة دمعه وهو ينظر إلى ملابسهم الرثة ووجوههم المغبرة ورؤوسهم الشعثة، أليس هؤلاء الصغار هم مستقبل البلد ورمز استمرار الحياة فينا؟؟؟. أما لهؤلاء البائسين من حق في العيش الكريم مثل باقي أطفال العالم؟؟؟، ألم يكن المغرب من المبتكرين لفكرة برلمان الطفل؟؟؟ أم أن النسبة هنا، نسبة البرلمان إلى الطفل، محجوزة لفئة خاصة من الأطفال، كما حجزت القطع الأرضية التي يفترض أن تستفيد منها كل ساكنة دوار عبد العزيز منهم فدوى الأم.
وقفت أمام “البيت” الذي نشأت فيه فدوى، فوجدت أن هذا المسمى له نصيب كبير من المجاز الأدبي، جدران مليئة بالثقوب، لا باب يفصل داخلها عن خارجها، تعلوها قطعة من البلاستيك السميك المرفوع في محل نصب السقف، أليست مطرية من النوع العملاق؟
أخبرتني إحدى المرافقات وهي امرأة فاضلة من ذوي المروءات في بلدنا وكانت خلال هذه الزيارة تتحدث إلى مجموعة من الفتيات تتراوح أعمارهن بين الرابعة عشر والعشرين، أن أغلبهن أمهات عازبات، نسخات مكررة من فدوى. ماذا يحمل الغد لهن ولأطفالهن، في ظل البؤس والفقر الذي دفعهن أصلا إلى هذا الواقع الأليم. عجبا أن يكون الفقر في بلدنا الفارس المغوار الذي يصول ويجول لتتناثر أشلاء ضحاياه يمينا وشمالا، ونحن المنفتح بلدنا على واجهتين بحريتين ونمتلك من الخيرات ما نعول به غيرنا فضلا عن أنفسنا. أين ذهبت خيرات بلادنا، ومن المستفيد من هذه الفوضى التي يراد لنا أن نتخبط فيها؟ يجب أن نتعرف على الفاعل أو على الأقل على نائب الفاعل إن كان الفعل مبنيا للمجهول، حتى نرفعهما جميعا لأن القاعدة تحتم رفعهما معا.
تساءلت أم فدوى وهي تحمل آية على ظهرها بينما يعدو الصغير رضوان عن يمينها وشمالها في حبور ومرح، يظن المسكين أن الزائرين جاءوا مدعوين لمناسبة سعيدة يقيمها أهله، لم يتنبه بعد لغياب أمه، ربما لوجود جدته التي ترعاه وتحنو عليه، ولكن من يرعاها هي وزوجها العاجز عن العمل وأطفالها الصغار، وقد ازدادت مسؤوليتها بعدما غادرت ابنتها الدنيا تاركة وراءها صغيرين لا حول لهما ولا قوة، تساءلت المرأة التعيسة فاطنة والدموع تتقاطر من عينيها، لما أعطتها الجمعية، مشكورة، الكلمة للتعبير عن مأساتها أمام الحاضرين: لقد كانت فدوى تتناوب معي على الكدح والعمل المياوم في الحقول لتلبية بعض حاجيات الأسرة، من يحمل معي اليوم هدا العبء ومن يرعى الطفلين إن أنا سعيت في تحصيل قطعة الخبز لهما، ثم صعدت نبرتها فجأة والغضب يغلف قسمات وجهها لماذا أحرم من ابنتي ولماذا يحرم هدان الصغيران من أمهما ولماذا تحرم ابنتي من حقها في الحياة وفي سكن كريم يؤويها وصغيريها؟ أليس هناك قوانين في هذه الدنيا ألسنا مواطنين؟؟؟
وختمت مداخلتها بالقول: لا بد أن يعوضوني في ابنتي لا بد أن يعوضوا ولديها، أريد حقي، إني أعرف من انتزع مني حقي وحق ابنتي، إنهم من نعتوها بالمختلة عقليا، ومن يسعون اليوم لإسكات صوتي، إني أعرفهم جيدا. أحس الجميع ببعض الارتياح بعدما أعطت السيدة فاطنة بعض مواصفات الفاعل وتوعدته بأنها ستسعى لأخذ حقها منه، فلم يعد الفعل، على الأقل بالنسبة لفاطنة وأمثالها مبنيا للمجهول.
بقي مشهد أخير لبعض النسوة لا يقل حالهن بؤسا عن فاطنة، يرمقننا بنظرات فيها معاني تتأرجح بين الخوف والرجاء، لم نتردد في الاقتراب منهن لاستكناه حقيقة تلك النظرات. سألتهن لمادا لا تقتربن أكثر وترددن الشعارات ألا يهمكن أمر جارتكن المكلومة؟ نطقت أصغرهن سنا: أنظروا إلى أولئك الواقفين على بعد أمتار منا. التفت، صحيح تذكرت، لقد شكل منظرهم أول مشهد ونحن ندخل الحي، بضعة عشر رجلا يرتدون قمصانا أنيقة ،يضعون ربطات عنق، ويحملون هواتف من نوع خاص. كيف نستطيع الربط بين المشهد الأول والمشهد الأخير، لم تتركنا صغرى النساء لحيرتنا فسرعان ما اختطفت مكبر الصوت من يد أحد المناضلين في حركة انفعالية، وصرخت بأعلى صوتها:
سوا اليوم سوا غدا \ السكن ولا بدا
فهمنا حينها أن التحدي موجه لأولئك المشبوهين لدينا، المعروفين لدى فاطنة وجاراتها.